الشريط


counter map
المظهر: نافذة الصورة. صور المظاهر بواسطة merrymoonmary. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

تنشيط اخر المواضيع

تنشيط اخر المواضيع
تنشيط اخر المواضيع

تنشيط اخر المواضيع

الاثنين، 22 أبريل 2013

معلومات شاملة عن 40 صحابي جليل .. صرخة هاني خليفة





(1) ابو بكر


خليفة رسول الله أبو بكر الصديق
إنه الصديق أبو بكر -رضي الله عنه- كان اسمه فيالجاهلية عبد الكعبة بن عثمان بن عامر فسماه رسول الله ( عبد الله) فهو عبد الله بنأبي قحافة، وأمه أم الخير سلمى بنت صخر.

ولد في مكة بعد ميلاد النبي ( بسنتينونصف) وكان رجلاً شريفًا عالمًا بأنساب قريش، وكان تاجرًا يتعامل مع الناس بالحسنى.
وكان أبو بكر صديقًا حميمًا لرسول الله ( وبمجرد أن دعاه الرسول ( للإسلام أسرع بالدخول فيه، واعتنقه؛ لأنه يعلم مدى صدق النبي ( وأمانته، يقول النبي)ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر
ماعكم (ما تردد) عنه حين ذكرته ولا تردد فيه ( ابن هشام)وجاهد أبو بكر مع النبيفاستحق بذلك ثناء الرسول عليه إذ يقول: "لو كنت متخذًا خليلا؛ لاتخذت أبا بكر،ولكن أخي وصاحبي"البخاريومنذ أعلن أبو بكر الصديق إسلامه، وهو يجاهد فيسبيل نشر الدعوة، فأسلم على يديه خمسة من العشرة المبشرين بالجنة وهم: عثمان بنعفان، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بنعوف-رضي الله عنه-.
وكانت الدعوة إلى الإسلام في بدايتها سرية، فأحب أبو بكر أنتمتلئ الدنيا كلها بالنور الجديد، وأن يعل الرسول ذلك على الملأ من قريش، فألحأبو بكر على النبي في أن يذهب إلى الكعبة، ويخاطب جموع المشركين، فكان النبييأمره بالصبر وبعد إلحاح من أبي بكر، وافق النبي، فذهب أبو بكر عند الكعبة، وقامفي الناس خطيبًا ليدعو المشركين إلى أن يستمعوا إلى رسول الله، فكان أول خطيبيدعو إلى الله، وما إن قام ليتكلم، حتى هجم عليه المشركون من كل مكان، وأوجعوهضربًا حتى كادوا أن يقتلوه، ولما أفاق -رضي الله عنه- أخذ يسأل عن رسول الله كييطمئن عليه، فأخبروه أن رسول الله بخير والحمد لله، ففرح فرحًا شديدًا.
وكانأبو بكر يدافع عن رسول الله بما يستطيع، فذات يوم بينما كان أبو بكر يجلس فيبيته، إذ أسرع إليه رجل يقول له أدرك صاحبك. فأسرع -رضي الله عنه-؛ ليدرك رسول اللهفوجده يصلي في الكعبة، وقد أقبل عليه عقبة بن أبي معيط، ولف حول عنقه ثوبًا، وظليخنقه، فأسرع -رضي الله عنه- ودفع عقبة عن رسول الله وهو يقول: أتقتلون رجلا أنيقول ربي الله؟! فالتفت المشركون حوله وظلوا يضربونه حتى فقد وعيه، وبعد أن عادإليه وعيه كانت أول جملة يقولها: ما فعل رسول الله؟

وظل أبو بكر-رضي اللهعنه-يجاهد مع النبي ( ويتحمل الإيذاء في سبيل نشر الإسلام، حتى أذن الرسول ( لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، حتى إذا بلغ مكانًا يبعد عن مكة مسيرة خمس ليال لقيهابن الدغنة أحد سادات مكة، فقال له: أين تريد يا أبا بكر ؟


فقال أبو بكر: أخرجنيقومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. فقال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لايخرج ولا يُخرج، أنا لك جار (أي أحميك)، ارجع، واعبد ربك ببلدك، فرجع أبو بكر-رضيالله عنه- مع ابن الدغنة، فقال ابن الدغنة لقريش: إن أبا بكر لا يخرج مثله، ولايخرج، فقالوا له: إذن مره أن يعبد ربه في داره ولا يؤذينا بذلك، ولا يعلنه، فإنانخاف أن يفتن نساءنا وأبناءنا، ولبث أبو بكر يعبد ربه في داره.

وفكر أبو بكر فيأن يبني مسجدًا في فناء داره يصلي فيه ويقرأ القرآن، فلما فعل ذلك أخذت نساءالمشركين وأبناؤهم يقبلون عليه، ويسمعونه، وهم معجبون بما يقرأ، وكان أبو بكر رقيقالقلب، كثير البكاء عندما يقرأ القرآن، ففزع أهل مكة وخافوا، وأرسلوا إلى ابنالدغنة، فلما جاءهم قالوا: إنا كنا تركنا أبا بكر بجوارك، على أن يعبد ربه في داره،وقد جاوز ذلك فابتنى مسجدًا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشيناأن يفتن نساءنا وأبناءنا فإنهه، فليسمع كلامك أو يردَّ إليك جوارك.
فذهب ابنالدغنة إلى أبي بكر وقال له: إما أن تعمل ما طلبت قريش أو أن تردَّ إليَّ جواري،فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت رجلاً عقدت له (نقضت عهده)، فقال أبو بكر فيثقة ويقين: فإن أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل.
وتعرض أبو بكر مراتكثيرة للاضطهاد والإيذاء من المشركين، لكنه بقي على إيمانه وثباته، وظل مؤيدًاللدين بماله وبكل ما يملك، فأنفق معظم ماله حتى قيل: إنه كان يملك أربعين ألف درهمأنفقها كلها في سبيل الله، وكان -رضي الله عنه- يشتري العبيد المستضعفين منالمسلمين ثم يعتقهم ويحررهم.
وفي غزوة تبوك، حثَّ النبي ( على الصدقة والإنفاق،فحمل أبو بكر ماله كله وأعطاه للنبي (، فقال رسول الله ( له: "هل أبقيت لأهلكشيئًا؟" فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، ثم جاء عمر -رضي الله عنه- بنصف ماله فقال لهالرسول: "هل أبقيت لأهلك شيئًا؟" فقال نعم نصف مالي، وبلغ عمر ما صنع أبو بكر فقال "والله لا أسبقه إلى شيء أبدًا" [الترمذي].
فقد كان رضي الله عنه يحب رسول اللهحبًّا شديدًا، وكان الرسول ( يبادله الحب، وقد سئل النبي ( ذات يوم: أي الناس أحبإليك؟ فقال: "عائشة" فقيل له: من الرجال، قال: "أبوها" [البخاري]. وكان -رضي اللهعنه- يقف على جبل أُحُد مع رسول الله ( ومعهما عمر، وعثمان-رضي الله عنهما-، فارتجفالجبل، فقال له الرسول (: "اسكن أحد، فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان" [البخاري].

ولما وقعت حادثة الإسراء والمعراج، وأصبح النبي ( يحدث الناس بأنه قدأسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماء السابعة، قالالمشركون: كيف هذا، ونحن نسير شهرًا حتى نصل إلى بيت المقدس؟! وأسرعوا إلى أبي بكروقالوا له: إن صاحبك يزعم أنه أسري به إلى بيت المقدس! فقال أبو بكر: إن كان قالذلك فقد صدق، إني أصدقه في خبر السماء يأتيه.


فسماه الرسول ( منذ تلك اللحظة (الصِّدِّيق).[ابن هشام]، كذلك كان أبو بكر مناصرًا للرسول ومؤيدًا له حينما اعترضبعض المسلمين على صلح الحديبية.

وحينما أذن الله تعالى لرسوله بالهجرة، اختارهالرسول ( ليكون رفيقه في هجرته، وظلا ثلاثة أيام في غار ثور، وحينما وقف المشركونأمام الغار، حزن أبو بكر وخاف على رسول الله (، وقال: يا رسول الله، لو أن أحدهمنظر إلي قدميه، لأبصرنا، فقال له الرسول (: "ما ظنك يا أبا بكر باثنين اللهثالثهما"[البخاري].
وشهد أبو بكر مع رسول الله ( جميع الغزوات، ولم يتخلف عنواحدة منها، وعرف الرسول ( فضله، فبشره بالجنة وكان يقول: "ما لأحد عندنا يد إلاوقد كافأناه ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدًا يكافئه الله بها يومالقيامة"[الترمذي].
وكان أبو بكر شديد الحرص على تنفيذ أوامر الله، فقد سمعالنبي ( ذات يوم يقول: من جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة"، فقالأبو بكر: إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال له النبي (: "إنك لستتصنع ذلك خيلاء" [البخاري]. وكان دائم الخوف من الله، فكان يقول: لو إن إحدى قدميّفي الجنة والأخرى خارجها ما آمنت مكر ربي (عذابه(
ولما انتقل الرسول ( إلىالرفيق الأعلى، اجتمع الناس حول منزله بالمدينة لا يصدقون أن رسول الله ( قد مات،ووقف عمر يهدد من يقول بذلك ويتوعد، وهو لا يصدق أن رسول الله قد مات، فقدم أبوبكر، ودخل على رسول الله ( وكشف الغطاء عن وجهه الشريف، وهو يقول: طبت حيًّا وميتًايا رسول الله وخرج -رضي الله عنه- إلى الناس المجتمعين، وقال لهم: أيها الناس، منكان منكم يعبد محمدًا ( فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لايموت، فإن الله تعالى قال: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أوقتل انقلبتم على أعقابكم) [آل عمران: 144].
ويسرع كبار المسلمين إلى السقيفة،ينظرون فيمن يتولى أمرهم بعد رسول الله (، وبايع المسلمون أبا بكر بالخلافة بعد أناقتنع كل المهاجرين والأنصار بأن أبا بكر هو أجدر الناس بالخلافة بعد رسول الله (،ولم لا؟ وقد ولاه الرسول ( أمر المسلمين في دينهم عندما مرض وثقل عليه المرض، فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" [متفق عليه].
وبعد أن تولى أبو بكر الخلافة، وقفخطيبًا في الناس، فقال:




أيها الناس إن قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنتفأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف منكم قوي عندي حتىأريح (أزيل) علته إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ منه الحق إن شاء الله، ولايدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا يشيع قوم قط الفاحشة؛ إلاعمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله؛ فلا طاعةلي عليكم.
وقد قاتل أبو بكر -رضي الله عنه- المرتدين ومانعي الزكاة، وقال فيهم: والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله ( لقاتلتهم عليه. وكان يوصيالجيوش ألا يقتلوا الشيخ الكبير، ولا الطفل الصغير، ولا النساء، ولا العابد فيصومعة، ولا يحرقوا زرعًا ولا يقلعوا شجرًا.
وأنفذ أبو بكر جيش أسامة بن زيد؛ليقاتل الروم، وكان الرسول ( قد اختار أسامة قائدًا على الجيش رغم صغر سنه، وحينمالقى النبي ( ربه صمم أبو بكر على أن يسير الجيش كما أمر الرسول (، وخرج بنفسه يودعالجيش، وكان يسير على الأرض وبجواره أسامة يركب الفرس، فقال له أسامة: يا خليفةرسول الله، إما أن تركب أو أنزل. فقال: والله لا أركبن ولا تنزلن، ومالي لا أغبِّرقدمي في سبيل الله. وأرسل -رضي الله عنه- الجيوش لفتح بلاد الشام والعراق حتى يدخلالناس في دين الله.
ومن أبرز أعماله-رضي الله عنه-أنه أمر بجمع القرآن الكريم وكتابته بعد استشهاد كثير من حفظته.
وتوفي أبو بكر ليلة الثلاثاء الثانيوالعشرين من جمادى الآخرة في السنة الثالثة عشرة من الهجرة، وعمره (63) سنة وغسلتهزوجته أسماء بنت عميس حسب وصيته، ودفن إلى جوار الرسول
وترك من الأولاد: عبدالله، وعبد الرحمن، ومحمد، وعائشة وأسماء، وأم كلثوم
-رضي الله عنهم- وروى عنرسول الله ( أكثر من مائة حديث.



(2) عمر بن الخطاب




شهيد المحراب

عمر بن الخطاب
إنه الفاروق عمر بن الخطاب-رضي الله عنه، ولد بعدعام الفيل بثلاث سنوات، وكان من بيت عظيم من قريش، وكان قبل إسلامه من أشد الناسعداوة لرسول الله ( وأصحابه، وكان يرى أن محمدًا قد فرق بين الناس، وجاء بدين جديد،فبلغ من ضيقه وكرهه أنه حمل سيفه وتوجه إلى النبي ( يريد أن يقتله، وفي الطريققابله رجل، فقال له: أين تريد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدًا، قال الرجل: وكيفتأمن من بني هاشم وبني زهرة إذا قتلته؟ فقال عمر: ما أراك إلا قد صبأت وتركت دينكالذي كنت عليه. قال الرجل: أفلا أدلك على ما هو أعجب من ذلك؟ قال عمر: وما هو؟ قال: أختك وزوجها قد صبوا وتركا دينك الذي أنت عليه.
فغضب عمر أشد الغضب، وغير وجهته؛حيث اتجه إلى بيت أخته فاطمة ليرى صدق ما أخبر به، فلما أتاهما وكان عندهما خباب بنالأرت-رضي الله عنه-، فدفع عمر الباب وقد سمع أصواتهم وهم يقرءون القرآن، فقالمستنكرًا: ما هذه الهيمنة (الصوت غير المفهوم) التي سمعتها عندكم ؟ فقال سعيد بنزيد زوج أخته: حديثًا تحدثناه بيننا.
قال عمر: فلعلكما قد صبوتما. فقال له سعيد: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر عليه وأخذ يضربه، فجاءت أخت عمرفدفعت عمر عن زوجها فلطمها بيده، فسال الدم من وجهها، فقالت: يا عمر، إن كان الحقفي غير دينك، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
فلما يئس عمرمنهما قال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرأه، فقالت أخته: إنك نجس ولا يمسه إلاالمطهرون، فاغتسل أو توضأ، وعلمته كيف يتوضأ، فقام عمر فتوضأ ثم أخذ الكتاب وقرأالآيات الأولى من سورة طه، فقال عمر: دلوني على محمد.
فلما سمع خباب قول عمر خرجمن المخبأ، وهو يقول: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله ( لك ليلةأمس: "اللهمَّ أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام" قد استجيبت، ثم خرجخباب مع عمر إلى دار الأرقم في جبل الصفا، حيث كان رسول الله ( وأصحابه.


فلمااقتربا من الدار، وجدا على بابها حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- ومعه طلحة بنعبيد الله، وبعض الصحابة -رضي الله عنهم- فلما رآه حمزة قال لمن حوله: هذا عمر، فإنيرد الله بعمر خيرًا يسلم ويتبع النبي (، وإن يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينا، ثمخرج رسول الله ( حتى أتى عمر، فأخذ بمجامع ثوبه وقال: ما أنت بمنته يا عمر حتى ينزلالله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة.


فقال عمر: أشهد أنك رسولالله، وشهد شهادة الحق، فكبر المسلمون تكبيرة سُمعت في طرق مكة.
ثم قال عمر: يارسول الله، علام نخفي ديننا ونحن على الحق، ويظهرون دينهم وهم على باطل.
فقالرسول الله (: "يا عمر، إنا قليل، وقد رأيت ما لقينا"، فقال عمر: فوالذي بعثك بالحق،لا يبقى مجلس جلست فيه وأنا كافر إلا أظهرت فيه الإيمان.
ثم خرج فطاف بالكعبة،ومرَّ على قريش وهم جالسون ينظرون إليه، فقال أبو جهل لعمر: يزعم فلان أنك صبوت؟فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله. فهجمعليه بعض المشركين، فأخذ عمر يضربهم، فما يقترب منه أحد إلا وقد نال منه حتى أمسكعمر بعتبة بن ربيعة وضربه ضربًا مبرحًا، ثم ذهب عمر إلى الرسول ( وأخبره، وطلب منهأن يخرج معه ليعلنوا إسلامهم أمام مشركي مكة، فخرج النبي ( وأصحابه، فطافوا بالكعبةوصلوا الظهر، ولقب عمر منذ ذلك بالفاروق لأنه فرق بن الحق والباطل. [ابنسعد].



وكان عمر -رضي الله عنه- مخلصًا في إسلامه، صادقًا مع ربه، شديد الحب للهورسوله، فلزم النبي (، ولم يفارقه أبدًا، وكان هو والصديق يسيران مع النبي حيث سار،ويكونان معه حيث كان، حتى أصبحا بمكانة الوزيرين له، وكان ( يقول: "إن الله جعلالحق على لسان عمر وقلبه" [أحمد والترمذي وأبو داود]، ويقول: "لو كان بعدي نبي لكانعمر" [ابن عبد البر].


وقد بشره رسول الله ( بالجنة، فهو أحد العشرة المبشرينبها، قال (:"دخلت الجنة، أو أتيت الجنة فأبصرت قصرًا، فقلت لمن هذا؟ فقالوا: لعمربن الخطاب، فأردت أن أدخله، فلم يمنعني إلا علمي بغيرتك"، قال عمر بن الخطاب: يارسول الله: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، أو عليك أغار. [متفق عليه].


ولما أذنرسول الله ( لأصحابه بالهجرة إلى المدينة، كانوا يهاجرون في السر خوفاً من قريش،وتواعد عمر بن الخطاب مع عباس بن أبي ربيعة المخزومي وهشام بن العاص على الهجرة،واتفقوا على أن يتقابلوا عند مكان بعيد عن مكة بستة أميال ومن يتخلف منهم فليهاجرالآخر، فتقابل عمر مع عباس عند المكان المحدد، أما هشام فقد أمسكه قومهوحبسوه.


فهاجر عمر مع عباس إلى المدينة، فلما هاجر إليها رسول الله ( آخى بينالمهاجرين والأنصار، فآخى بين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك -رضي اللهعنهما-.

وتكون المجتمع الإسلامي في المدينة، وبدأت رحلة الجهاد في الإسلام، فرفععمر لواء الحق وأمسك بسيفه ليناصر دين الله -عز وجل- وجاءت أول معركة للمسلمين معالمشركين غزوة بدر الكبرى، فأسر المسلمون عددا من المشركين، وشاور النبي ( أصحابهفي أسرى بدر، فكان رأي عمر أن يقتلوا، وكان رأي الصديق أن يفتدوا، فاختار النبي ( أيسر الرأيين، ونزل على رأي أبي بكر.
فنزل جبريل -عليه السلام- على النبي ( ليتلو عليه آيات القرآن مؤيدًا رأي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقال تعالى: (ماكان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد عرضالآخرة والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) [الأنفال: 67-68]، فبكى رسول الله ( وبكى أبو بكر، فجاء عمر فسألهما عن سبب بكائهمافأخبراه.
وشهد الفاروق عمر مع رسول الله ( جميع المشاهد والغزوات، يجاهد بسيفهفي سبيل الله؛ ليعلي كلمة الحق. وفي غزوة أحد، وقف بجانبه ( يدافع عنه بعد أن انهزمالمسلمون.
ويلحق رسول الله ( بالرفيق الأعلى، فيبايع الفاروق أبا بكر الصديق،كما بايعه المهاجرون والأنصار، ويقف عمر بجانبه يشد من أزره، لا يكتم عن رأيا، ولايبخل عنه بجهد في سبيل نصرة الحق ورفعة الدين، فيكون معه في حربه ضد المرتدينومانعي الزكاة ومدعي النبوة، وفي أعظم الأمور وأجلها مثل جمع القرآن.
ويوصي الخليفة الأول قبل موته بالخلافة إلى الفاروق عمر، ليضع على كاهله عبئًا ثقيلاً،يظل عمر يشتكي منه طوال حياته، ولكن من كان لهذا الأمر غير عمر، فإنه الفاروق،العابد، الزاهد، الإمام العادل.
وحمل عمر أمانة الخلافة فكان مثالا للعدلوالرحمة بين المسلمين، وكان سيفًا قاطعا لرقاب الخارجين على أمر الله تعالى،والمشركين، فكان رحيما وقت الرحمة، شديدًا وقت الشدة.
فقد خرج مع مولاه وأسلم فيليلة مظلمة شديدة البرد يتفقد أحوال الناس، فلما كانا بمكان قرب المدينة، رأى عمرنارًا، فقال لمولاه: يا أسلم، ههنا ركب قد قصر بهم الليل، انطلق بنا إليهم فذهباتجاه النار، فإذا بجوارها امرأة وصبيان، وإناء موضوع على النار، والصبيان يتصايحونمن شدة الجوع، فاقترب منهم، وسألهم: ما بالكم؟ فقالت المرأة: قصر بنا الليل والبرد،قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون (يصطرخون)؟! قالت: من الجوع، فقال: وأي شيء علىالنار؟ قالت: ما أعللهم به حتى يناموا، الله بيننا وبين عمر، فبكى ورجع إلى البيتفأحضر دقيقًا وسمنًا وقال: يا أسلم، احمله على ظهري. فقال أسلم: أنا أحملهعنك.
فقال: أنت تحمل وزري يوم القيامة؟ فحمله على ظهره وانطلقا حتى أتيا المرأة،فألقى الحمل عن ظهره وأخرج من الدقيق، فوضعه في القدر، وألقى عليه السمن وجعل ينفختحت القدر والدخان يتخلل لحيته ساعة، حتى نضج الطعام، فأنزله من على النار، وقال: ائتني بصحفة، فأتى بها، فغرف فيها ثم جعلها أمام الصبيان، وقال: كلوا، فأكلوا حتىشبعوا، والمرأة تدعو له، فلم يزل عندهم حتى نام الصغار، ثم انصرف وهو يبكي، ويقول: يا أسلم، الجوع الذي أسهرهم وأبكاهم.
وخرج الفاروق يومًا يتفقد أحوال رعيته فإذاامرأة تلد وتبكي، وزوجها لا يملك حيلة، فأسرع عمر -رضي الله عنه- إلى بيته، فقاللامرأته أم كلثوم بنت
علي بن أبي طالب، هل لك في أجر ساقه الله إليك؟ ثم أخبرهاالخبر، فقالت نعم. فحمل عمر على ظهره دقيقًا وشحمًا، وحملت أم كلثوم ما يصلحللولادة، وجاءا، فدخلت أم كلثوم على المرأة، وجلس عمر مع زوجها يحدثه، ويعد معالطعام، فوضعت المرأة غلامًا، فقالت أم كلثوم: يا أمير المؤمنين بشر صاحبكبغلام.
فلما سمع الرجل قولها استعظم ذلك، وأخذ يعتذر إلى عمر، فقال عمر: لا بأسعليك، ثم أعطاه ما ينفقون وانصرف.
ويروى أنه رأى شيخًا من أهل الذمة يستطعمالناس، فسأل عمر عنه، فقيل له: هذا رجل من أهل الذمة كبر وضعف، فوضع عنه عمرالجزية، وقال: كلفتموه الجزية حتى إذا ضعف تركتموه يستطعم؟ ثم أجرى له من بيت المالعشرة دراهم.
وفي خلافة الفاروق عمر اتسعت الدولة الإسلامية في مشارق الأرضومغاربها، وكثرت الفتوح الإسلامية للبلاد، ففتح في عهده الشام والعراق وإيرانوأذربيجان، ومصر وليبيا، وتسلم عمر مفاتيح المقدس، وكثر في عهده الأموال، وامتلأبيت المال، فلم تشهد الدولة الإسلامية عهدًا أعظم من ذلك العهد وخلافة أفضل من تلكالخلافة.
ورغم ذلك الثراء كان عمر يعيش زاهدًا، ممسكًا على نفسه وعلى أهله،موسعًا على عامة المسلمين وفقرائهم.
فكان عمر لا يأكل إلا الخشن من الطعام، ولايجمع بين إدامين (الإدامين: ما يأكل بالخبز) قط، ويلبس ثوبًا به أكثر من اثنتي عشررقعة، لا يخاف أحدًا لعدله، فقد حكم، فعدل، فأمن فاطمأن فنام لا يخاف إلا الله عزوجل.
وقد جعل عمر سيرة رسول الله ( وحياة الصديق -رضي الله عنه- نبراسًا أمامهيضيء له طريقه، ويسير على هداه لا يحيد عنه طرفة عين أو أقل من ذلك، وكان دائمًايذكر نفسه ويذكر حوله بعظاته البالغة، فمن ذلك قوله الخالد: حاسبوا أنفسكم قبل أنتحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم.
وكان يقول: ويل لديَّان الأرض منديَّان السماء يوم يلقونه، إلا من أمَّ (قصد) العدل، وقضى بالحق، ولم يقض بهواه ولالقرابة، ولا لرغبة ولا لرهبة، وجعل كتاب الله مرآته بين عينيه.
وكان عمر شديدًاعلى ولاته الأمراء، فكان يأمرهم بالعدل والرحمة بين الناس، ويحثهم على العلم، ولميكن يولي الأمر إلا لمن يتوسم فيه الخير ويعرف عنه الصلاح والتقى، ودائمًا كانيتعهدهم ويعرف أخبارهم مع رعيتهم، فإن حاد أحدهم عن طريق الحق عزله وولى غيره،وعاتبه، وحاسبه على أفعاله.
ويروى في ذلك أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر -رضي اللهعنه- فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم، قال عمر: عذت معاذًا، قال: قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط، ويقول: أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم هو وابنه معه، فقال عمر: أين المصري؟
فجاءه،فقال له: خذ السوط فاضربه، فجعل يضربه بالسوط، وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين، ثمقال عمر للمصري: ضع على صلعة عمرو، فقال المصري: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذيضربني، وقد استقدت منه (أي اقتصصت منه).
فنظر عمر إلى عمرو نظرة لوم وعتاب وقالله: منذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ فقال عمرو: يا أمير المؤمنين،لم أعلم، ولم يأتني.
وعاش عمر -رضي الله عنه- يتمنى الشهادة في سبيل الله -عزوجل-، فقد صعد المنبر ذات يوم، فخطب قائلاً: إن في جنات عدن قصرًا له خمسمائة باب،على كل باب خمسة آلاف من الحور العين، لا يدخله لا نبي، ثم التفت إلى قبر رسول الله(وقال: هنيئًا لك يا صاحب القبر، ثم قال: أو صديق، ثم التفت إلى قبر أبي بكر-رضيالله عنه وقال: هنيئًا لك يا أبا بكر، ثم قال: أو شهيد، وأقبل على نفسه يقول: وأنى لك الشهادة يا عمر؟! ثم قال: إن الذي أخرجني من مكة إلى المدينة قادر على أنيسوق إليَّ الشهادة.
واستجاب الله دعوته، وحقق له ما كان يتمناه، فعندما خرج إلىصلاة الفجر يوم الأربعاء (26) من ذي الحجة سنة (23هـ) تربص به أبو لؤلؤة المجوسي،وهو في الصلاة وانتظر حتى سجد، ثم طعنه بخنجر كان معه، ثم طعن اثني عشر رجلا ماتمنهم ستة رجال، ثم طعن المجوسي نفسه فمات.
وأوصى الفاروق أن يكمل الصلاة عبدالرحمن بن عوف وبعد الصلاة حمل المسلمون عمرًا إلى داره، وقبل أن يموت اختار ستة منالصحابة؛ ليكون أحدهم خليفة على أن لا يمر ثلاثة أيام إلا وقد اختاروا من بينهمخليفة للمسلمين، ثم مات الفاروق، ودفن إلى جانب الصديق أبي بكر، وفي رحاب قبرالمصطفى.


(3) عثمان بن عفان

ذو النورين

عثمان بن عفان

إنه الصحابي الجليل عثمان بن عفان-رضي الله عنه-،بشره النبي ( بالجنة، ووعده بالشهادة، ومات وهو راض عنه، وجهز جيش العسرة، وتزوج منابنتي رسول الله (، وكان ثالث الخلفاء الراشدين، واستشهد وهو يقرأ القرآنالكريم.
وقد ولد عثمان بعد ميلاد النبي ( بست سنوات في بيت شريف، فأبوه
عفانبن العاص صاحب المجد والكرم في قومه. وكان عثمان -رضي الله عنه- من السابقين إلىالإسلام، فحين دعاه أبو بكر إلى الإيمان بالله وحده، لبى النداء، ونطق بشهادةالحق.
ورغم ما كان يتمتع به عثمان -رضي الله عنه- من مكانة في قومه لا أنه تعرضللإيذاء من أجل إسلامه، وتحمل كثيرًا من الشدائد في سبيل دعوته، فقد أخذه عمه الحكمبن أبي العاص، وأوثقه برباط، وأقسم ألا يحله حتى يترك دينه، فقال له عثمان: واللهلا أدعه أبدًا ولا أُفارقه. فلما رأى الحكم صلابته وتمسكه بدينه؛ تركه وشأنه.

وكان عثمان من الذين هاجروا إلى الحبشة فارًا بدينه مع زوجته رقية بنترسول الله (، ثم هاجر إلى المدينة، وواصل مساندته للنبي ( بكل ما يملك من نفسومال.
ولما خرج المسلمون إلى بدر لملاقاة المشركين تمنى عثمان -رضي الله عنه- أنيكون معهم، ولكن زوجته رقية بنت رسول الله ( مرضت، فأمره الرسول ( أن يبقى معهاليمرضها، وبعد أن انتصر المسلمون في المعركة أخذ رسول الله ( في توزيع الغنائم،فجعل لعثمان نصيبًا منها، ولكن زوجته رقية -رضي الله عنها- لم تعش طويلاً، فماتت فينفس السنة التي انتصر فيها المسلمون في غزوة بدر.
وبعد وفاة رقية زوَّج الرسول ( عثمان بن عفان من ابنته الأخرى أم كلثوم، ليجتمع بذلك الفضل العظيم لعثمان بزواجهمن ابنتي الرسول (، فلقب بذي النورين.
ثم شهد عثمان-رضي الله عنه-مع النبي ( كثيرًا من المشاهد، وأرسله النبي ( إلى مكة حينما أرادوا أداء العمرة ليخبر قريشًاأن المسلمين جاءوا إلى مكة لأداء العمرة، وليس من أجل القتال، ولكن المشركيناحتجزوا عثمان بعض الوقت، وترددت إشاعة أنهم قتلوه، فجمع النبي ( أصحابه، ودعاهمإلى بيعته على قتال المشركين، فسارع الصحابة بالبيعة، وعرفت تلك البيعة ببيعةالرضوان، وعاد عثمان -رضي الله عنه-، وكان صلح الحديبية.
وفي المدينة رأى عثمان -رضي الله عنه- معاناة المسلمين من أجل الحصول على الماء في المدينة؛ حيث كانوايشترون الماء من رجل يهودي يملك بئرًا تسمى رومة، فقال النبي (: "من يشتري بئر رومةفيجعل دلاءه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة" [الترمذي].
فذهب عثمان-رضيالله عنه-إلى ذلك اليهودي وساومه على شرائها، فأبى أن يبيعها كلها، فاشترى نصفهاباثني عشر ألف درهم، ثم خصص لنفسه يومًا ولليهودي يومًا آخر، فإذا كان يوم عثمانأخذ المسلمون من الماء ما يكفيهم يومين دون أن يدفعوا شيئًا، فلما رأى اليهود ذلكجاء إلى عثمان، وباع له النصف الآخر بثمانية آلاف درهم، وتبرع عثمان بالبئر كلهاللمسلمين.
وفي غزوة تبوك، حثَّ النبي ( المسلمين على الإنفاق لتجهيز الجيش الذيسمي بجيش العسرة لقلة المال والمؤن وبعد المسافة، وقال: "من جهز جيش العسرة فلهالجنة" [الترمذي].
فبعث عثمان إلى النبي ( عشرة آلاف دينار، فجعل النبي ( يقبلهاويدعو عثمان ويقول: "غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت، وما أخفيت وما هوكائن إلى أن تقوم الساعة، وما يبالي عثمان ما عمل بعد هذا"

[ابن عساكروالدارقطني].
وتوفي النبي ( وهو راض عن عثمان؛ فقال: "لكل نبي رفيق ورفيقي (يعنيفي الجنة) عثمان" [الترمذي].

وكان عثمان نعم العون لأبي بكر الصديق في خلافته،ومات وهو عنه راض، وكان كذلك مع عمر بن الخطاب حتى لقى عمر ربه، وقد اختاره عمر ضمنالذين رشحهم لتولي الخلافة من بعده، وبعد مشاورات بينهم تم اختياره ليكون الخليفةالثالث للمسلمين بعد عمر.
وظل عثمان خليفة للمسلمين ما يقرب من اثنتي عشرة سنةفكان عادلاً في حكمه، رحيما بالناس، يحب رعيته ويحبونه، وكان يحرص على معرفةأخبارهم أولاً بأول.
وعرف عثمان -رضي الله عنه- بالزهد والقناعة مع ما توفر منثراء عظيم، ومال وفير، يقول عبد الملك بن شداد: رأيت عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يوم الجمعة على المنبر وعليه إزار عدني (من عدن) غليظ، ثمنه أربعة دراهم أو خمسةدراهم.
وقال الحسن: رأيت عثمان بن عفان-رضي الله عنه-يقيل (ينام وقت الظهيرة) فيالمسجد وهو يومئذ خليفة، وقد أثر الحصى بجنبه فنقول: هذا أمير المؤمنين! هذا أميرالمؤمنين!
وقال شرحبيل بن مسلم: كان عثمان -رضي الله عنه- يطعم الناس طعامالإمارة، وعندما يدخل بيته كان يأكل الخل والزيت.
وكان رضي الله عنه يحثالمسلمين على الجهاد، ويرغب فيه، قال يومًا وهو على المنبر: أيها الناس إني كتمتكمحديثًا سمعته من رسول الله ( كراهية تفرقكم عني، ثم بدا لي أن أحدثكموه ليختار امرؤلنفسه ما بدا له، سمعت رسول الله ( يقول: "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يومًافيما سواه من المنازل" [النسائي].
وواصل عثمان نشر الإسلام، ففتح الله على يديهكثيرًا من الأقاليم والبلدان، وتوسعت في عهده بلاد الإسلام، وامتدت في أنحاءكثيرة.
ومن فضائله -رضي الله عنه- وحسناته العظيمة، أنه جمع الناس على مصحفواحد، بعد أن شاور صحابة الرسول ( في ذلك، فأتى بالمصحف الذي أمر أبو بكر -رضي اللهعنه- زيد بن ثابت -رضي الله عنه- بجمعه، وكان عند السيدة حفصة أم المؤمنين -رضيالله عنها-، ثم أمر بكتابة عدة نسخ ، فبعث واحدًا لأهل الشام وآخر لأهل مصر، وأرسلنسخة إلى كل من البصرة واليمن.
فكان لعمله هذا فائدة عظيمة حتى يومنا هذا، وسميتتلك النسخ التي كتبها بالمصاحف الأئمة، ثم قام بحرق ما يخالفها من المصاحف، وأعجبالصحابة بما فعل عثمان، فقال أبو هريرة -رضي الله عنه- : أصبت ووفقت، وقال
عليبن أبي طالب -رضي الله عنه- : لو لم يصنعه هو لصنعته.
وكان عثمان بن عفان -رضيالله عنه- كثير العبادة، يداوم على قيام، وقد أخبر النبي ( أن عثمان سوف يقتلمظلومًا وأنه من الشهداء، فذات يوم، صعد النبي ( وأبو بكر وعمر وعثمان جبل أحد،فاهتز الجبل بهم، فقال له النبي: "اسكن أحد، فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان" [البخاري].
وتحقق قول النبي الكريم ( وقتل عثمان -رضي الله عنه- ظلمًا، وهو يتلوآيات القرآن الكريم في يوم الجمعة (18) ذي الحجة سنة (35هـ).
وصلى عليه الزبيربن العوام ودفن ليلة السبت، وكان عمره يومئذ (82) سنة، وقيل غير ذلك، فرضي الله عنه.


(4) علي بن أبي طالب


الفدائي الأول
علي بن أبي طالب

إنه الصحابي الجليل علي بن أبي طالب -رضي اللهعنه- ابن عم رسول الله (، أبوه هو أبو طالب عبد مناف بن عبد المطلب، وأمه السيدةفاطمة بنت أسد بن هاشم -رضي الله عنها-.
ولد علي -رضي الله عنه- قبل بعثة النبي ( بعشر سنين، وكان أصغر إخوته، وتربى في بيت النبي (، ولما نزل الوحي على رسول الله ( دعا عليّا إلى الإيمان بالله وحده، فأسرع -رضي الله عنه- بقبول الدعوة، ودخل فيدين الله، فكان أول من أسلم من الصبيان.
ولما رآه أبو طالب يصلي مع رسول الله ( قال له: أي بني، ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال علي: يا أبي، آمنت برسول الله،وصدقت بما جاء به، وصليت معه لله واتبعته، فقال أبو طالب: أما إنه لم يَدْعُك إلالخير، فالزمه.
وكان رسول الله ( يحب عليّا، ويثني عليه، فكان يقول له: "أنت منيوأنا منك" [البخاري]. وكان يقول له: "لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق" [مسلم].

وعندما أراد الرسول ( الهجرة إلى المدينة، أمر علي بن أبي طالب أن ينامفي فراشه، وفي ليلة الهجرة في جنح الظلام، تسلل مجموعة من كفار مكة، وفي يد كل واحدمنهم سيف صارم حاد، وقفوا أمام باب بيت النبي ( ينتظرون خروجه لصلاة الفجر، ليضربوهضربة رجل واحد، فأخبر الله نبيه ( بتلك المؤامرة، وأمره بالخروج من بينهم، فخرجالنبي ( وقد أعمى الله أبصار المشركين، فألقى النبي ( التراب على رؤوسهم وهو يقرأقول الله تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا فأغشيناهم فهم لايبصرون). [يس: 9].
ولما طلعت الشمس؛ استيقظ المشركون، وهجموا على البيت، ورفعواسيوفهم، ليضربوا النائم، فإذا بهم لا يجدونه رسول الله، وإنما هو ابن عمه علي بنأبي طالب، الذي هب واقفًا في جرأة ساخرًا من المشركين، ومحقرًا لشأنهم.

وظلعليٌّ في مكة ثلاثة أيام بعد هجرة رسول الله ( إلى المدينة لكي يرد الودائع، كماأمره رسول الله (، ولما هاجر وجد النبي ( قد آخى بين المهاجرين والأنصار، فقال: يارسول الله، آخيت بين أصحابك، ولم تؤاخ بيني وبين أحد. فقال له رسول الله (: "أنتأخي في الدنيا والآخرة" [ابن عبد البر].
وقد بشره رسول الله ( بالجنة، فكان أحدالعشرة المبشرين بها، وقد زوجه رسول الله ( من ابنته فاطمة -رضي الله عنها-، وقدمعليٌّ لها مهرًا لسيدة نساء العالمين وريحانة الرسول (.
وعاش علي -رضي الله عنه- مع زوجته فاطمة في أمان ووفاق ومحبة، ورزقه الله منها الحسن والحسين.
وذات يومذهب رسول الله ( إلى دار علم فلم يجده، فسأل عنه زوجته فاطمة الزهراء: "أين ابنعمك"؟ فقالت: في المسجد، فذهب إليه الرسول ( هناك، فوجد رداءه قد سقط عن ظهرهوأصابه التراب فجعل الرسول ( يمسح التراب عن ظهره، ويقول له: "اجلس يا أباتراب..اجلس يا أبا تراب"[البخاري].
وشهد علي مع النبي ( جميع الغزوات، وعرفبشجاعته وبطولته، وفي يوم خيبر قال النبي (: "لأعطين الراية غدًا رجلا يحبه اللهورسوله (أو قال: يحب الله ورسوله)، يفتح الله على يديه" [البخاري].
فبات الصحابةكل منهم يتمنى أن يكون هو صاحب الراية، فلما أصبح الصباح، سأل النبي ( عن عليّ،فقيل له: إنه يشتكي عينيه يا رسول الله، قال: "فأرسلوا إليه، فأتوني به".


فلماجاء له، بصق في عينيه، ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقالعلي: يا رسول الله، أقاتلتم حتى يكونوا مثلنا: "أنفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم،ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي اللهبك رجلاً واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم" [البخاري]. ففتح الله علىيديه.

ولما نزل قول الله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيتويطهركم تطهيرًا) [الأحزاب: 32]، دعا الرسول ( فاطمة وعليًا والحسن والحسين-رضيالله عنهم-في بيت السيدة أم سلمة، وقال: "اللهمَّ إن هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهمالرجس وطهرهم تطهيرًا" [ابن عبد البر].

وعرف علي -رضي الله عنه- بالعلم الواسع،فكانت السيدة عائشة -رضي الله عنها- إذا سئلت عن شيء قالت: اسألوا عليًّا وكان عمركذلك.
وكان عليٌّ يقول: سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلوني عنكتاب الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار، أم في سهل أم فيجبل.
وكان أبو بكر وعمر في خلافتيهما بعد وفاة رسول الله ( يعرفان لعلي الفضل،وقد اختاره عمر ليكون من الستة أصحاب الشورى الذين يختار منهم الخليفة، ولما استشهدعثمان -رضي الله عنه- اختير عليّ ليكون الخليفة من بعده.
ولما تولي عليّ الخلافةنقل مقرها من المدينة إلى العراق، وكان -رضي الله عنه-يحرص على شئون أمته فيسيربنفسه في الأسواق ومعه درعه (عصاه) ويأمر الناس بتقوى الله، وصدق الحديث، وحسنالبيع، والوفاء بالكيل والميزان.
وكان يوزع كل ما يدخل بيت المال من الأموال بينالمسلمين، وقبل وفاته أمر بتوزيع كل المال، وبعد توزيعه أمر بكنس بيت المال، ثم قامفصلى فيه رجاء أن يشهد له يوم القيامة.
وكان -رضي الله عنه- كثير العبادة، يقوممن الليل فيصلي ويطيل صلاته، ويقول مالي وللدنيا، يا دنيا غرِّي غيري.
وقد جاءتإليه امرأتان تسألانه، إحداهما عربية والأخرى مولاة، فأمر لك واحدة منهما بكسر منطعام وأربعين درهمًا، فأخذت المولاة الذي أعطيت وذهبت، وقالت العربية: يا أميرالمؤمنين، تعطيني مثل الذي أعطيت هذه وأنا عربية وهي مولاة؟ فقال لها علي -رضي اللهعنه- : إني نظرت في كتاب الله -عز وجل- فلم أر فيه فضلاً لولد إسماعيل على ولدإسحاق -عليهما الصلاة والسلام-.
وفي آخر خلافة علي -رضي الله عنه- كانت الفتنةقد كبرت، وسادت الفوضى أرجاء واسعة من الدولة الإسلامية، فخرج ثلاثة من شبابالخوارج، وتواعدوا على قتل من ظنوا أنهم السبب المباشر في تلك الفتن وهم علي،ومعاوية،
وعمرو بن العاص، فأما معاوية وعمرو فقد نجيا، وأما عليٌّ فقد انتظرهالفاسق عبد الرحمن بن ملجم، وهو خارج إلى صلاة الفجر، فتمكن منه، وأصابه في رأسهإصابة بالغة أشرف منها على الموت، وكان ذلك في سنة (40 هـ)، وعمره آنذاك (65) سنة.
ودفن بالكوفة بعد أن ظل خليفة للمسلمين خمس سنين إلا أربعة أشهر، وروى عنرسول الله ( أكثر من أربعمائة حديث، فرضي الله عنه وأرضاه.


(5) أبو عبيدة بن الجراح


أمين الأمة

أبو عبيدة بن الجراح

إنه الصحابي الجليل أبو عبيدة عامر بن عبدالله بن الجراح -رضي الله عنه-، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وكان من أحب الناس إلىالرسول (، فقد سئلت عائشة -رضي الله عنها-: أي أصحاب رسول الله ( كان أحب إليه؟قالت: أبو بكر. قيل: ثم من؟ قالت: عمر. قيل ثم من؟ قالت: أبو عبيدة بنالجراح.

[الترمذي وابن ماجة]. وسماه رسول الله ( أمين الناس والأمة؛ حيث قال: "لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" [البخاري].

ولما جاء وفدنجران من اليمن إلى الرسول (، طلبوا منه أن يرسل معهم رجلا أمينا يعلمهم، فقال لهم: "لأبعثن معكم رجلا أمينا، حق أمين"، فتمنى كل واحد من الصحابة أن يكون هو، ولكنالنبي ( اختار أبا عبيدة، فقال: "قم يا أبا عبيدة" [البخاري].
وقد هاجر أبوعبيدة إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وفي المدينة آخى الرسول ( بينه وبين سعد بن معاذ -رضي الله عنهما-.

ولم يتخلف أبو عبيدة عن غزوة غزاها النبي (، وكانت له مواقفعظيمة في البطولة والتضحية، ففي غزوة بدر رأى أبو عبيدة أباه في صفوف المشركينفابتعد عنه، بينما أصر أبوه على قتله، فلم يجد الابن مهربًا من التصدي لأبيه،وتقابل السيفان، فوقع الأب المشرك قتيلا، بيد ابنه الذي آثر حب الله ورسوله على حبأبيه، فنزل قوله تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد اللهورسوله ولو كانوا آباءهم وأيديهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهارخالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون) [المجادلة: 22].
وفي غزوة أحد، نزع الحلقتين اللتين دخلتا من المغفر (غطاء الرأسمن الحديد وله طرفان مدببان) في وجه النبي ( من ضربة أصابته، فانقلعت ثنيتاه، فحسنثغره بذهابهما. [الحاكم وابن سعد].

وكان أبو عبيدة على خبرة كبيرة بفنون الحرب،وحيل القتل لذا جعله الرسول ( قائدًا على كثير من السرايا، وقد حدث أن بعثه النبي ( أميرًا على سرية سيف البحر، وكانوا ثلاثمائة رجل فقل ما معهم من طعام، فكان نصيبالواحد منهم تمرة في اليوم ثم اتجهوا إلى البحر، فوجدوا الأمواج قد ألقت حوتًاعظيمًا، يقال له العنبر، فقال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا، نحن رسل رسول الله وفيسبيل الله، فكلوا، فأكلوا منه ثمانية عشر يومًا. [متفق عليه].

وقال عمر بنالخطاب -رضي الله عنه- لجلسائه يومًا: تمنوا. فقال أحدهم: أتمنى أن يكون ملء هذاالبيت دراهم، فأنفقها في سبيل الله. فقال: تمنوا. فقال آخر: أتمنى أن يكون ملء هذاالبيت ذهبًا، فأنفقه في سبيل الله. فقال عمر: لكني أتمنى أن يكون ملء هذا البيترجالاً من أمثال أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، فأستعلمهمفي طاعة الله. [البخاري].

وكان عمر يعرف قدره، فجعله من الستة الذين استخلفهم،كي يختار منهم أمير المؤمنين بعد موته.

وكان أبو عبيدة -رضي الله عنه- كثيرالعبادة يعيش حياة القناعة والزهد، وقد دخل عليه عمر -رضي الله عنه- وهو أمير علىالشام، فلم يجد في بيته إلا سيفه وترسه ورحله، فقال له عمر: لو اتخذت متاعًا (أوقال: شيئًا) فقال أبو عبيدة:

يا أمير المؤمنين، إن هذا سيبلِّغنا المقيل (سيكفينا). [عبد الرازق وأبو نعيم].

وقد أرسل إليه عمر أربعمائة دينار مع غلامه،وقال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- ثم انتظر في البيتساعة حتى ترى ما يصنع، فذهب بها الغلام إليه، فقال لأبي عبيدة: يقول لك أميرالمؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال أبو عبيدة: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالييا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلىفلان حتى أنفذها. [ابن سعد].

وكان يقول: ألا رب مبيض لثيابه، مدنس لدينه، ألا ربمكرم لنفسه وهو لها مهين! بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات. [أبو نعيموابن عبد البر].

وفي سنة (18) هـ أرسل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- جيشًا إلىالأردن بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، ونزل الجيش في عمواس بالأردن، فانتشر بها مرضالطاعون أثناء وجود الجيش وعلم بذلك عمر، فكتب إلى أبي عبيدة يقول له: إنه قد عرضتلي حاجة، ولا غني بي عنك فيها، فعجل إلي.

فلما قرأ أبو عبيدة الكتاب عرف أن أميرالمؤمنين يريد إنقاذه من الطاعون، فتذكر قول النبي (: "الطاعون شهادة لكل مسلم" [متفق عليه]. فكتب إلى عمر يقول له: إني قد عرفت حاجتك فحللني من عزيمتك، فإني فيجند من أجناد المسلمين، لا أرغب بنفسي عنهم. فلما قرأ عمر الكتاب، بكى، فقيل له: مات أبو عبيدة؟! قال: لا، وكأن قد (أي: وكأنه مات). [الحاكم].
فكتب أميرالمؤمنين إليه مرة ثانية يأمره بأن يخرج من عمواس إلى منطقة الجابية حتى لا يهلكالجيش كله، فذهب أبو عبيدة بالجيش حيث أمره أمير المؤمنين، ومرض بالطاعون، فأوصىبإمارة الجيش إلى معاذ بن جبل، ثم توفي -رضي الله عنه- وعمره (58) سنة، وصلى عليهمعاذ بن جبل، ودفن ببيسان بالشام. وقد روي أبو عبيدة -رضي الله عنه- أربعة عشرحديثًا عن النبي

















(6) سعد بن أبي وقاص

أول الرماة في سبيل الله

سعد بن أبي وقاص
إنه الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة.
وكان سعد قد رأى وهو ابن سبع عشرة سنة في منامه أنه يغرق في بحر الظلمات، وبينما هويتخبط فيها، إذ رأى قمرًا، فاتبعه، وقد سبقه إلى هذا القمر ثلاثة، هم: زيد بنحارثة، وعلي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، ولما طلع الصباح سمع أن رسول الله ( يدعو إلى دين جديد؛ فعلم أن هذا هو القمر الذي رآه؛ فذهب على الفور؛ ليلحق بركبالساقين إلى الإسلام.

وتظهر روعة ذلك البطل عندما حاولت أمه مرارًا أن ترده عنطريق الإيمان عبثًا، فباءت محاولاتها بالفشل أمام القلب العامر بالإيمان، فامتنعتعن الطعام والشراب، ورفضت أن تتناول شيئًا منه، حتى يرجع ولدها سعد عن دينه، ولكنهقال لها: أماه إنني أحبك، ولكن حبي لله ولرسوله أكبر من أي حب آخر.

وأوشكت أمهعلى الهلاك، وأخذ الناس سعدًا ليراها عسى أن يرق قلبه، فيرجع عما في رأسه، فيقو ل لها سعد: يا أمه، تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا، ما تركتديني فإن شئت كلي، وإن شئت لا تأكلي، وعندها أدركت الأم أن ابنها لن يرده عن دينه شيء؛ فرجعت عن عزمها، وأكلت، وشربت لينزل وحي الله -عز وجل- يبارك ما فعل سعد، قال تعالى: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيامعروفا) [لقمان: 15].

ولازم سعد -رضي الله عنه- رسول الله ( بمكة حتى أذن الله للمسلمين بالهجرة إلى المدينة المنورة، فهاجر مع المسلمين ليكون بجوار رسول الله ( في محاربة المشركين، ولينال شرف الجهاد في سبيل الله، وحسبه أنه أول من رمى بسهم في سبيل الله وأول من أراق دماء الكافرين، فقد بعث رسول الله ( سرية فيها

سعد بنأبي وقاص إلى مكان في أرض الحجاز اسمه سابغ، وهو من جانب الجحفة، فا ن كفأ المشركو ن على المسلمين، فحماهم سعد يومئذ بسهامه، فكان أول قتال في الإسلام.


ويوم أحد،وقف سعد يدافع عن رسول الله (، ويحارب المشركين، ويرميهم حتى نالته دعوة الرسول (،حين رآه فسر منه وقال: "يا سعد، ارم فداك أبي وأمي" [متفق عليه]، فكان سعد يقول: ماجمع رسول الله ( أبويه لأحد قبلي، وكانت ابنته عائشة بنت سعد تباهي بذلك وتفخر،وتقول: أنا ابنة المهاجر الذي فداه رسول الله ( يوم أحد بالأبوين.

وذات يوم، مرض سعد، فأتاه رسول الله ( ليزوره، ويطمئن عليه؛ فتساءل سعد قائلاً: إن قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ فقال له النبي (: لا،فقال سعد: بالشطر (نصفه)، قال النبي ( لا. ثم قال (: "الثلث، والثلث كثير، إنك إنتذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بهاوجه الله إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في فيّ (فم) امرأتك" [متفق عليه]، وقد رزق الله سعدًا الأبناء، فكان له إبراهيم، وعامر، وعمر، ومحمد، وعائشة.

وقد كان رسول الله ( يحب سعدًا، فعن جابر قال: كنا مع رسول الله (، إذ أقبل سعد، فقال (: "هذا خالي،فليرني امرؤ خاله" [الترمذي والطبراني وابن سعد].

وكان سعد مستجاب الدعوة أيضًا،فقد دعا له النبي ( قائلا: "اللهم استجب لسعد إذا دعاك" [الترمذي].

وعين سعدأميرًا على الكوفة، أثناء خلافة الفاروق عمر -رضي الله عنه- الذي كان يتابع ولاته ويتقصى أحوال رعيته، وفي يوم من الأيام اتجه عمر -رضي الله عنه- إلى الكوفة ليحققفي شكوى أهلها أن سعدًا يطيل الصلاة، فما مر عمر بمسجد إلا وأحسنوا فيه القول، إلارجلا واحدًا قال غير ذلك، فكان مما افتراه على سعد: أنه لا يعدل في القضية، ولايقسم بالسوية، ولا يسير بالسرية -يخرج بالجيش- فدعا سعد عليه قائلاً: اللهم إن كان كاذبًا، فأعم بصره، وأطل عمره، وعرضه للفتن، فكان ذلك الرجل يمشي في الطريق، ويغمزالجواري، وقد سقط حاجباه من عينيه لما سئل عن ذلك قال: شيخ مفتون، أصابته دعوةسعد.

وذات يوم سمع سعد رجلاً يسب عليّا وطلحة والزبير، فنهاه فلم ينته، فقال سعدللرجل: إذن أدعو عليك؛ فقال الرجل: أراك تتهددني كأنك نبي؛ فانصرف سعد، وتوضأ، وصلىركعتين، رفع يديه، وقال: اللهم إن كنت تعلم أن هذا الرجل قد سب أقوامًا سبقت لهممنك الحسنى؛ وأنه قد أسخطك سبه إياهم؛ فاجعله آية وعبرة؛ فلم يمر غير وقت قصير حتىخرجت ناقة هوجاء من أحد البيوت، وهجمت على الرجل الذي سب الصحابة؛ فأخذته بينقوائمها، وما زالت تتخبط حتى مات.

وحينما اشتد خطر الفرس على حدود الدولةالإسلامية أرسل إليهم الخليفة

عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- جيشًا بقيادة سعد بنأبي وقاص، ليقابلهم سعد في معركة القادسية، واشتد حصار المسلمين على الفرسوأعوانهم، حتى قتل الكثير منهم، وعلى رأسهم القائد رستم، ودب الرعب في باقي جنودالفرس، فكان النصر العظيم للمسلمين يوم القادسية، ولم يكن لسعد هذا اليوم فقط في قتال الفرس، بل كان هناك يوم مجيد آخر للمسلمين تحت قيادته، في موقعة المدائن؛ حيث تجمع الفرس في محاولة أخيرة للتصدي لزحف المسلمين، وأدرك سعد أن الوقت في صالح الفرس، فقرر أن يهاجمهم فجأة، وكان نهر دجلة قد امتلأ عن آخره، في وقت الفيضان،فسبحت خيول المسلمين في النهر وعبرته إلى الضفة الأخرى لتقع المواجهة، ويحقق المسلمون نصرًا كبيرًا.

وعندما طعن أبو لؤلؤة المجوسي عمر بن الخطاب -رضي اللهعنه-، اختار عمر ستة من المسلمين ليتم اختيار خليفة منهم، وأخبر عمر أن الرسول ( مات وهو عنهم راض، وكان من هؤلاء الستة سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، حتى قالعمر: لو كنت مختارًا للخلافة واحدًا، لاخترت سعدًا، وقال لمن حوله: إن وليها سعدفذاك، وإن وليها غيره فليستعن بسعد، فكان عثمان بن عفان يستعين به في كلأموره.
وحدثت الفتنة آخر أيام الإمام علي -رضي الله عنه- فكان سعد بعيدًا عنهم؛واعتزلها، وأمر أهله وأولاده ألا ينقلوا إليه شيئًا من أخبارها.
وعندما جاءهابنه عامر يطلب منه أن يقاتل المتحاربين ويطلب الخلافة لنفسه، قال سعد في شفافيةالمسلم الصادق: أي بني، أفي الفتنة تأمرني أن أكون رأسًا؟ لا والله حتى أعطي سيفًا،إن ضربت به مسلمًا نبا عنه (أي لم يصبه بأذى)، وإن ضربت به كافرًا قتله، ولقد سمعترسول الله ( يقول: "إن الله يحب الغني الخفي التقي" [أحمد ومسلم].
وفي سنة (55هـ) أوصى سعد أهله أن يكفوه في ثوب قديم، كان عنده، وياله من ثوب يشرف به أعظمأهل الأرض، قال لهم: لقد لقيت المشركين فيه يوم بدر، ولقد ادخرته لهذااليوم.
وتوفي رحمة الله عليه بالعقيق، فحمل على الأعناق إلى المدينة، ودفن بهاليكون آخر من مات من العشرة المبشرين بالجنة وآخر من مات من المهاجرين -رضي الله عنهم-

















(7)عبد الرحمن بن عوف


الثري العفيف

عبد الرحمن بن عوف
إنه الصحابي الكريم عبد الرحمن بن عوف -رضيالله عنه-، ولد قبل عام الفيل بعشر سنين، وأسلم قبل أن يدخل الرسول ( دار الأرقم بنأبي الأرقم، وكان أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلمواعلى يد أبي بكر الصديق، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة الذين اختارهم عمرليخلفوه في إمارة المؤمنين، وكان أغنى أغنياء الصحابة.
أغمي عليه ذات يوم ثمأفاق، فقال لمن حوله: أَغُشي عليَّ؟ قالوا: نعم، قال: فإنه أتاني ملكان أو رجلانفيهما فظاظة وغلظة، فانطلقا بي، ثم أتاني رجلان أو ملكان هما أرق منهما، وأرحمفقالا: أين تريدان به؟ قالا: نحاكمه إلى العزيز الأمين. فقال: خليا عنه، فإنه ممنكتبت له السعادة وهو في بطن أمه.
[الحاكم].
هاجر إلى الحبشة مرتين، وآخى رسولالله ( بينه وبين سعد بن الربيع، فقال له سعد: أخي، أنا أكثر أهل المدينة مالا،فانظر شطر (نصف) مالي فخذه، ولي امرأتان، فانظر أيتهما أعجب إليك حتى أطلقها لك،فقال عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق. فدلوه علىالسوق، فاشترى، وباع، فربح كثيرًا.
وكان -رضي الله عنه- فارسًا شجاعًا، ومجاهدًاقويًّا، شهد بدرًا وأحدًا والغزوات كلها مع رسول الله (، وقاتل يوم أحد حتى جرحواحدًا وعشرين جرحا، وأصيبت رجله فكان يعرج عليها.

بعثه رسول الله ( إلى دومةالجندل، وعممه بيده الشريفة وسدلها بين كتفيه، وقال له: "إذا فتح الله عليك فتزوجابنة شريفهم". فقدم عبد الرحمن دومة الجندل فدعاهم إلى الإسلام فرفضوا ثلاثًا، ثمأسلم الأصبع بن ثعلبة الكلبي، وكان شريفهم فتزوج عبد الرحمن ابنته تماضر بنتالأصبع، فولدت له أبا سلمة ابن عبد الرحمن. [ابن هشام]

وكان رسول الله ( يدعوله، ويقول: "اللهم اسق عبد الرحمن بن عوف من سلسبيل الجنة" [أحمد].

وكان -رضيالله عنه- تاجرًا ناجحًا، كثير المال، وكان عامة ماله من التجارة، وعرف بكثرةالإنفاق في سبيل الله، أعتق في يوم واحد ثلاثين عبدًا، وتصدق بنصف ماله على عهدالرسول (.


وأوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله، وأوصى لمن بقي من أهل بدر لكلرجل أربعمائة دينار، وكانوا مائة فأخذوها، وأوصى بألف فرس في سبيل الله.

وكان ( يخاف على عبد الرحمن بن عوف من كثرة ماله، وكان يقول له:

"يا بن عوف، إنك منالأغنياء، ولن تدخل الجنة إلا زحفًا، فأقرض الله يطلق لك قدميك"، فقال عبد الرحمن: فما أقرض يا رسول الله؟ فأرسل إليه رسول الله ( فقال: "أتاني جبريل، فقال لي: مرهفليضف الضيف، وليعط في النائبة والمصيبة، وليطعم المسكين" [الحاكم]، فكان عبدالرحمن يفعل ذلك.

وبرغم ما كان فيه ابن عوف -رضي الله عنه- من الثراء والنعم،فقد كان شديد الإيمان، محبا للخير، غير مقبل على الدنيا.

وذات يوم أتى بطعامليفطر، وكان صائمًا فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، فكفن في بردته، إن غطىرأسه بدت (ظهرت) رجلاه، وإن غطى رجلاه بدا رأسه، ثم قال: وقتل حمزة، وهو خير مني،ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وأعطينا منها ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتناعجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.

وذات يوم، أحضر عبد الرحمن لبعض إخوانهطعامًا من خبز ولحم، ولما وضعت القصعة بكى عبد الرحمن، فقالوا له: ما يبكيك يا أبامحمد؟ فقال: مات رسول الله ( ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشعير، ولا أرانا أخرنالما هو خير لنا.
ولما تولى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الخلافة سنة (13 هـ)،بعث عبد الرحمن بن عوف على الحج، فحج بالناس، ولما طعن عمر -رضي الله عنه-، اختارستة من الصحابة ليختاروا من بينهم الخليفة، وكان عبد الرحمن بن عوف أحد هؤلاء الستةوكان ذا رأي صائب، ومشورة عاقلة راشدة، فلما اجتمع الستة قال لهم: اجعلوا أمركم إلىثلاثة نفر فتنازل كل من الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص فبقيأمر الخلافة بين عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب فقال عبدالرحمن: أيكم يتبرأ من الأمر ويجعل الأمر إلي، ولكن الله على أن لا آلو (أقصر) عنأفضلكم وأخيركم للمسلمين.
فقالوا: نعم. ثم اختار عبد الرحمن عثمان بن عفانللخلافة وبايعه فبايعه علي وسائر المسلمين.
وتوفي عبد الرحمن -رضي الله عنه- سنة (31هـ)، وقيل (32هـ) في خلافة عثمان بن عفان، ودفن بالبقيع

















(8)سعيد بن زيد

مستجاب الدعوة

سعيد بن زيد
إنه سعيد بن زيد -رضي الله عنه- أحد العشرةالمبشرين بالجنة، وقد نشأ سعيد في بيت لم يكن الإيمان غريبًا على أهله، فأبوه زيدبن عمرو بن نفيل الذي ترك عبادة الأصنام، وأسرع إلى عبادة الله على دين إبراهيم،وكن يسند رأسه على الكعبة، ويقول: يا معشر قريش، والله ما فيكم أحد على دين إبراهيم غيري.
[ابن هشام].
فنشأ سعيد منذ صغره مثل أبيه سليم الفطرة، وما إن سمعبالإسلام حتى أسرع بالدخول فيه، وكان ذلك قبل دخول النبي ( دار الأرقم بن أبيالأرقم، وأسلمت معه زوجته فاطمة بنت الخطاب، وقد تحمل زيد وزوجته الكثير من الإيذاءفي سبيل الله، وكانا سببًا في إسلام عمر بن الخطاب، حين هجم عليهما في البيت وهمايقرآن القرآن مع خباب بن الأرت، فأخذ منهما الصحيفة، وقرأ ما فيها، فشرح الله صدره،وأعلن إسلامه.
وهاجر سعيد إلى الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة وآخى الرسول ( بينهوبين أبي بن كعب -رضي الله عنهما-.

وبعثه الرسول ( مع طلحة بن عبيد الله؛ليتحسَّسا أخبار عير قريش التي رجعت من التجارة، وفي أثناء قيامهما بهذه المهمةحدثت غزوة بدر التي انتصر فيها المسلمون، ورجع سعيد وطلحة فأعطاهما الرسول ( نصيبهما من الغنائم. وعرف سعيد بالشجاعة والقوة، واشترك في الغزوات كلها.

وكان -رضي الله عنه- مستجاب الدعوة، فقد روي أن أروى بنت أويس ادعت كذبًا أنه أخذ منهاأرضًا، وذهبت إلى مروان بن الحكم والى المدينة آنذاك، واشتكت له، فأرسل مروان إلىسعيد، وقال له: إن هذه المرأة تدعى أنك أخذت أرضًا، فقال سعيد: كيف أظلمها وقد سمعترسول الله ( يقول: "من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أراضين" [متفق عليه]، فقال مروان: إذن فعليك باليمين، فقال سعيد: اللهم إن كانت كاذبة فلا تمتها حتى تعمي بصرها،وتجعل قبرها في بئر، ثم ترك لها الأرض التي زعمت أنها ملكها.

وبعد زمن قليل،عميت أروى فكانت تقودها جارية لها، وفي ليلة قامت ولم توقظ الجارية، وأخذت تمشي فيالدار فوقعت في بئر كانت في دارها، فماتت فأصبحت هذه البئر قبرها.


وكان سعيدمطاعًا بين الناس، يحبهم ويحبونه، وحينما حدثت الفتنة بين المسلمين، لم يشارك فيها،وبقي مداومًا على طاعة الله وعبادته حتى توفي سنة (51هـ) أو (52هـ) ودفن بالمدينةالمنورة.







(9)حواري الرسول الزبير بن العوام


حواري الرسول



الزبير بن العوام

إنه الزبير بن العوام -رضي الله عنه- الذييتلقى في نسبه مع النبي (، فأمه صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول (، وهو أحد العشرةالمبشرين بالجنة، وهو أحد الستة أهل الشورى الذين اختارهم عمر؛ ليكون منهم الخليفةبعد موته، وزوج أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-.


وقد أسلم الزبـيرمبكرًا، فكان واحدًا من السبعة الأوائل الذين سارعوا إلى الإسلام، ولما علم عمهنوفل بن خويلد بإسلامه غضب غضبًا شديدًا، وتولى تعذيبه بنفسه، فكان يلفُّه في حصير،ويدخن عليه بالنار، ويقول له: اكفر برب محمد، أدرأ (أكف) عنك هذا العذاب. فيرد عليهالزبير قائلاً: لا، والله لا أعود للكفر أبدًا. [الطبراني وأبو نعيم].

وسمعالزبير يومًا إشاعة كاذبة تقول: إن محمدًا ( قد قتل، فخرج إلى شوارع مكة شاهرًاسيفه، يشق صفوف الناس، وراح يتأكد من هذه الشائعة معتزمًا إن كان الخبر صحيحًا أنيقتل من قتل رسول الله (، فلقي النبي ( بشمال مكة، فقال له النبي ( "مالك؟" فقال: أخبرت أنك أخذت (قُتلت). فقال له النبي ( "فكنت صانعًا ماذا؟" فقال: كنت أضرب به منأخذك. ففرح النبي ( لما سمع هذا، ودعا له بالخير ولسيفه بالنصر.[أبو نعيم]. فكان -رضي الله عنه- أول من سل سيفه في سبيل الله.


وقد هاجر الزبير إلى الحبشة مع منهاجر من المسلمين، وبقي بها حتى أذن لهم الرسول ( بالعودة إلى المدينة.

وقد شهدمع رسول الله ( الغزوات كلها، وفي غزوة أحد بعد أن عاد جيش قريش إلى مكة أرسلالرسول ( سبعين رجلا من المسلمين في أثرهم، كان منهم أبو بكر والزبير. [البخاري].


ويوم اليرموك، ظل الزبير -رضي الله عنه- يقاتل جيش الروم وكاد جيشالمسلمين أن يتقهقر، فصاح فيهم مكبرًا: الله أكبر. ثم اخترق صفوف العدو ضاربًابسيفه يمينًا ويسارًا، يقول عنه عروة: كان في الزبير ثلاث ضربات بالسيف، كنت أدخلأصابعي فيها، ثنتين (اثنتين) يوم بدر، وواحدة يوم اليرموك.


وقال عنه أحدالصحابة: صحبت الزبير بن العوام في بعض أسفاره، ورأيت جسده، فقلت له: والله لقدشهدت بجسمك لم أره بأحد قط، فقال لي: أما والله ما فيها جراحة إلا مع رسول الله (،وفي سبيل الله. وقيل عنه: إنه ما ولى إمارة قط، ولا جباية، ولا خراجا، ولا شيئًاإلا أن يكون في غزوة مع النبي ( أو مع أبي بكر أو عمر أو عثمان.

وحين طال حصاربني قريظة دون أن يستسلموا أرسله رسول الله ( مع

علي بن أبي طالب، فوقفا أمامالحصن يرددان قولهما: والله لنذوقن ما ذاق حمزة، أو لنفتحن عليهم الحصن.

وقالعنه النبي (: "إن لكل نبي حواريًا وحواري الزبير" [متفق عليه]. وكان يتفاخر بأنالنبي ( قال له يوم أحد، ويوم قريظة: "ارم فداك أبي وأمي".

وتقول السيدة عائشةرضي الله عنها لعروة بن الزبير: كان أبواك من الذين استجابوا لله وللرسول من بعدماأصابهم القرح (تريد أبا بكر والزبير)

[ابن ماجة].
وكان الزبير بن العوام منأجود الناس وأكرمهم، ينفق كل أموال تجارته في سبيل الله، يقول عنه كعب: كان للزبيرألف مملوك يؤدون إليه الخراج، فما كان يدخل بيته منها درهمًا واحدًا (يعني أنهيتصدق بها كلها)، لقد تصدق بماله كله حتى مات مديونًا، ووصى ابنه عبد الله بقضاءدينه، وقال له: إذا أعجزك دين، فاستعن بمولاي. فسأله عبد الله: أي مولى تقصد؟فأجابه: الله، نعم المولى ونعم النصير. يقول عبد الله فيما بعد: فوالله ما وقعت فيكربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض دينه فيقضيه. [البخاري].
وعلى الرغممن طول صحبته للنبي ( فإنه لم يرو عنه إلا أحاديث قليلة، وقد سأله ابنه عبد الله عنسبب ذلك، فقال: لقد علمت ما كان بيني وبين رسول الله ( من الرحم والقرابة إلا أنيسمعته يقول: "من كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار" [البخاري]. فكان -رضيالله عنه -يخاف أن يتحدث عن رسول الله ( بشيء لم يقله، فيزل بذلك في النار.
وخرجالزبير من معركة الجمل، فتعقبه رجل من بني تميم يسمى عمرو بن جرموز وقتله غدرًابمكان يسمى وادي السباع، وذهب القاتل إلى الإمام عليّ يظن أنه يحمل إليه بشرى، فصاحعليٌّ حين علم بذلك قائلاً لخادمه: بشر قاتل ابن صفية بالنار. حدثني رسول الله ( أنقاتل الزبير في النار. [أحمد وابن حبان والحاكم والطبراني].
ومات الزبير -رضيالله عنه- يوم الخميس من شهر جمادى الأولى سنة (36هـ)، وكان عمره يوم قتل (67 هـ) سنة وقيل (66) سنة.



















(10) طلحة بن عبيدالله





شهيد يمشي على الأرض



طلحة بن عبيد الله


إنه الصحابي الجليل طلحة بن عبيدالله، قال عنه الرسول (: "من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض؛ فلينظر إلىطلحة بن عبيد الله" [الترمذي].

وهو أحد العشرة الذين بشرهم الرسول ( بالجنة،وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الستة الذين اختارهم عمر بن الخطابليكون منهم خليفة المسلمين.

وكان طلحة قد سافر إلى أرض بصرى بالشام في تجارة له،وبينما هو في السوق سمع راهبًا في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم أفيهم أحد منأهل الحرم؟ فذهب إليه طلحة، وقال له: نعم أنا، فقال الراهب: هل ظهر أحمد؟ قال طلحة: من أحمد؟ قال الراهب: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخرالأنبياء، ومخرجه من الحرم، ومهاجره إلى نخل وحرة ويباخ (يقصد المدينة المنورة)،فإياك أن تسبق إليه.

فوقع كلام الراهب في قلب طلحة، ورجع سريعًا إلى مكة وسألأهلها: هل كان من حدث؟ قالوا نعم، محمد الأمين تنبأ، وقد تبعه ابن أبي قحافة، فذهبطلحة إلى أبي بكر، وأسلم على يده، وأخبره بقصة الراهب.[ابن سعد]، فكان من السابقينإلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر.

ورغم ما كان لطلحة منثراء ومال كثير ومكانة في قريش فقد تعرض لأذى المشركين واضطهادهم مما جعله يهاجرالمدينة حين أذن النبي ( للمسلمين بالهجرة، وجاءت غزوة لكنه لم يشهدها، وقيل إنالرسول ( أرسله في مهمة خارج المدينة وحينما عاد ووجد المسلمين قد عادوا من غزوةبدر، حزن طلحة حزنًا شديدًا لما فاته من الأجر والثواب، لكن الرسول ( أخبره أن لهمن الأجر مثل من جاهد في المعركة، وأعطاه النبي ( سهمًا ونصيبًا من الغنائم مثلالمقاتلين تمامًا.

ثم شهد طلحة غزوة أحد وما بعدها من الغزوات، وكان يوم أحديومًا مشهودًا، أبلى فيه طلحة بلاء حسنًا حتى قال عنه النبي (: "طلحة شهيد يمشي علىوجه الأرض" [ابن عساكر].


وحينما نزل قول الله تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) [الأحزاب: 23]، قال النبي (: "طلحة ممن قضى نحبه" [الترمذي].

وحينما حدث اضطراب في صفوفالمسلمين، وتجمع المشركون حول رسول الله ( كل منهم يريد قتله، وكل منهم يوجه السيوفوالسهام والرماح تجاه الرسول ( إذا بطلحة البطل الشجاع يشق صفوف المشركين حتى وصلإلى رسول الله (، وجعل من نفسه حصنًا منيعًا للنبي (، وقد أحزنه ما حدث لرسول الله ( من كسر رباعيته (أي مقدمة أسنانه)، وشج رأسه، فكان يتحمل بجسمه السهام عن رسولالله، ويتقي النبل عنه بيده حتى شلت يده، وشج رأسه، وحمل رسول الله ( على ظهره حتىصعد على صخرة، وأتاه أبو بكر وأبو عبيدة، فقال لهما الرسول: اليوم أوجب طلحة يا أبابكر"، ثم قال لهما: "عليكما صاحبكما"، فأتيا إلى طلحة فوجداه في حفرة، وبه بضعوسبعون طعنة ورمية وضربة، وقد قطعت إصبعه" [ابن سعد].

وكان أبو بكر الصديق إذاذكر يوم أحد قال: ذاك يوم كله لطلحة، وقد بشره الرسول ( بالجنة.

وقد بلغ طلحةمبلغًا عظيمًا في الجود والكرم حتى سمى بطلحة الخير، وطلحة الجواد، وطلحة الفياض،ويحكى أن طلحة اشترى بئر ماء في غزوة ذي قرد، ثم تصدق بها، فقال رسول الله (: "أنتطلحة الفياض" [الطبراني]، ومن يومها قيل له طلحة الفياض.

وقد أتاه مال من حضرموتبلغ سبعمائة ألف، فبات ليلته يتململ، فقالت له زوجته: مالك؟ فقال: تفكرت منذالليلة، فقلت: ما ظن رجل بربه يبيت وهذا المال في بيته، فأشارت عليه أن يقسم هذاالمال على أصحابه وإخوانه، فسرَّ من رأيها وأعجب به، وفي الصباح، قسم كل ما عندهبين المهاجرين والأنصار، وهكذا عاش حياته كلها كريمًا سخيًّا شجاعًا.
واشترك فيباقي الغزوات مع النبي ( ومع أبي بكر وعمر وعثمان، وحزن حزنًا شديدًا حينما رأىمقتل عثمان بن عفان رضي الله واستشهاده، واشترك في موقعة الجمل مطالبًا بدم عثمانوبالقصاص ممن قتله، وعلم أن الحق في جانب علي، فترك قتاله وانسحب من ساحة المعركةوفي أثناء ذلك أصيب بسم فمات.
وقد روي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: والله إنيلأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله تعالى: (ونزعنا ما في صدورهممن غل إخوانًا على سرر متقابلين) [الحجر: 47].
وتزوج طلحة -رضي الله عنه- أربعنسوة، كل واحدة منهن أخت لزوجة من زوجات النبي (، وهن: أم كلثوم بنت أبي بكر، أختعائشة، وحمنة بنت جحش أخت زينب، والفارعة بنت أبي سفيان أخت أم حبيبة، ورقية بنتأبي أمية أخت أم سلمة.
وقد ترك طلحة تسعة أولاد ذكور وبنتًا واحدة، وروي عنالنبي ( أكثر من ثلاثين حديثًا.



















(11) زيد بن حارثة (حب رسول الله)



حِب رسول الله ( زيد بن حارثة إنه زيد بن حارثة -رضي الله عنه-، وكان يسمى قبل بعثةالنبي صلى الله عليه وسلم زيد بن محمد، وكانت أمه سعدى بنت ثعلبة قد أخذته معها،وهو ابن ثمان سنوات، لزيارة أهلها في بني مَعْن، ومكثت سُعدى في قومها ما شاء اللهلها أن تمكث، وفوجئ أهل معن بإحدى القبائل المعادية تهجم عليهم، وتنزل الهزيمة بهم،وتأخذ من بين الأسرى زيدًا. وعادت الأم إلى زوجها وحيدة، فلم يكد يعرف حارثة الخبرحتى سقط مغشيًا عليه، وحمل عصاه فوق ظهره، ومضى يجوب الديار، ويقطع الصحارى، يسألالقبائل والقوافل عن ابنه وقرة عينه، حتى جاء موسم الحج والتجارة، فالتقى رجال منقبيلة حارثة بزيد في مكة، ونقلوا له لوعة أبويه، فقص عليهم زيد حكايته، وكيف هاجمبنو القَيْن قبيلة أمه واختطفوه، ثم باعوه في سوق عكاظ لرجل من قريش اسمه حكيم بنحزام بن خويلد، فأعطاه لعمته خديجة بنت خويلد التي وهبته لزوجها محمد بن عبد الله،فقبله وأعتقه، ثم قال زيد للحجاج من قومه: أخبروا أبي أني هنا مع أكرم والد. فلماعاد القوم أخبروا أباه، ولم يكد حارثة يعلم مكان ابنه حتى خرج هو وأخوه إلى مكةفسألا عن محمد بن عبد الله، فقيل لهما: إنه في الكعبة -وكان النبي ( لم يبعث بعد- فدخلا عليه فقالا: يا ابن عبد المطلب، يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه،تفكون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ولدنا، فامنن علينا، وأحسن في فدائه، فتركالنبي ( لزيد حرية الاختيار، فقال لهما: (ادعوا زيدًا، خيروه، فإن اختاركم فهو لكمبغير فداء، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء). ففرححارثة، وقال للنبي (: لقد أنصفتنا، وزدتنا، وأحسنت إلينا، فلما جاء زيد سأله النبي (: (أتعرف هؤلاء؟) قال زيد: نعم: هذا أبي، وهذا عمي، فقال الرسول ( لزيد: (فأنامَنْ قد علمت ورأيت، صحبتي لك، فاخترني أو اخترهما)، فقال زيد: ما أنا بالذي أختارعليك أحدًا، أنت مني مكان الأب والعم. فدهش أبوه وعمه وقالا: ويحك يا زيد أتختارالعبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟! فقال زيد: نعم، قد رأيت من هذاالرجل شيئًا ما أنا بالذي أختار عليه أحدًا أبدًا. فلما رأى الرسول ( ذلك فرح فرحًاشديدًا، ودمعت عيناه، وأخذ زيدًا وخرج إلى حجر الكعبة حيث قريش مجتمعة، ونادى: (يامن حضر، اشهدوا أن زيدًا ابني يرثني وأرثه) [ابن حجر]. فلما رأى أبوه وعمه ذلك طابتنفساهما. وصار زيد لا يُعْرف في مكة كلها إلا بزيد بن محمد، فلما جاء الإسلام أسلمزيد، وكان ثاني المسلمين، وأحبه الرسول ( حبًّا عظيمًا. ولما أذن الرسول ( لأصحابهبالهجرة هاجر زيد إلى المدينة، وآخى الرسول ( بينه وبين أسيد بن حضير، وظل زيد يدعىزيد ابن محمد حتى نزل قوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله} _[الأحزاب: 5]، فسمى زيد بن حارثة، وزوجه الرسول ( مولاته أم أيمن، فأنجبت له أسامة بن زيد، ثمزوجه ( ابنة عمته زينب بنت جحش، ولكن لم تطب الحياة بينهما، فذهب زيد إلى الرسول ( يشكوها، فأخبره النبي ( أن يمسك عليه زوجه، ويصبر عليها. ولكن الله سبحانه أمررسوله ( أن يطلق زينب من زيد، ويتزوجها هو، وذلك لإبطال عادة التبني التي كانتمنتشرة في الجاهلية، وكان الابن بالتبني يعامل معاملة الابن الصلب، قال تعالى: {إذتقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ماالله ما مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكهالكي لا يكون علي المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا ما قضوا منهن وطرًا وكان أمرالله مفعولاً} [الأحزاب: 73]. ويكفي زيد فخرًا أن شرفه الله تعالى بذكر اسمه فيالقرآن الكريم، وقد زوجه الرسول ( من أم كلثوم بنت عقبة، وكان زيد فدائيًّا شجاعًا،ومن أحسن الرماة، واشترك في غزوة بدر، وبايع النبي ( على الموت في أحد، وحضرالخندق، وصلح الحديبية، وفتح خيبر، وغزوة حنين، وجعله النبي ( أميرًا على سبعسرايا، منها: الجموع والطرف والعيص وحِسْمى، وغيرها، وقد قالت السيدة عائشة -رضيالله عنه-: ما بعثه رسول الله ( في جيش قط، إلا أمره عليهم. [النسائي وأحمد]. وعندما أخذ الروم يغيرون على حدود الدولة الإسلامية، واتخذوا من الشام نقطة انطلاقلهم؛ سيَّر الرسول ( جيشًا إلى أرض البلقاء بالشام، ووقف ( يُوَدِّعُ جيشه بعد أنأمر عليهم زيد بن حارثة، قائلاً: (إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإنأصيب جعفر فعبد الله بن رواحة)_[ابن اسحاق]. وسار الجيش حتى نزل بجوار بلدة تسمىمؤتة، وتقابل جيش المسلمين مع جيش الروم الذي كان عدده يزيد على مائتي ألف مقاتل،ودارت الحرب، واندفع زيد في صفوف الأعداء، لا يبالي بعددهم ولا بعدتهم، ضاربًابسيفه يمينًا ويسارًا، حاملا الراية بيده الأخرى، فلما رأى الأعداء شجاعته طعنوه منالخلف، فظل زيد حاملاً الراية حتى استشهد، فدعا له الرسول ( وقال: (استغفروالأخيكم، قد دخل الجنة وهو يسعى) [ابن سعد.[



(12)مصعب بن عمير






أول سفير في الإسلام مصعب بن عمير إنه الصحابي الكريم مصعب بن عمير -رضي الله عنه- أو مصعب الخير، كان في صغره وقبل إسلامه شابًا جميلا مدللاً منعمًا، يلبس من الثيابأغلاها، يعرفه أهل مكة بعطره الذي يفوح منه دائمًا، وأبوه وأمه من أغنى أغنياء مكة،وكانا يحبانه حبًّا شديدًا، فرغباته كلها منفذة، وطلباته كلها مجابة. سمع مصعب ماسمعه أهل مكة من دعوة محمد ( التي ينادى فيها بعبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنامالتي لا تنفع ولا تضر، والمساواة بين الناس والتحلي بمكارم الأخلاق، فتحركت نفسه،وتاقت جوارحه أن يتعرف على هذا الدين الجديد، ولم يمض غير قليل حتى أسرع للقاءالنبي ( في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وأعلن إسلامه. وكانت أمه خناس بنت مالك تتمتعبقوة شخصيتها، وكان مصعب يهابها، ولم يكن حين أسلم يخشى شيئًا قدر خشيته من أنيتسرب خبر إسلامه إلى أمه، فقرر أن يكتم إسلامه حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً،وأخذ يتردد على النبي ( في دار الأرقم، يصلي معه ويستمع إلى آيات الله. وذات يومرآه عثمان بن طلحة وهو يصلي مع الرسول (، فذهب إلى أمه وأخبرها بما رأى، فطارصوابها، وغضبت عليه هي وقومها غضبًا شديدًا، لكن الفتى المؤمن وقف أمامهم يتلوعليهم القرآن في يقين وثبات، لعل الله يشرح به قلوبهم، ولم يشأ الله هدايتهم بعد،فقرروا حبسه، وعذبوه، فصبر واحتسب ذلك كله في سبيل الله. ومنعت أمه عنه الطعام ذاتيوم، ورفضت أن يأكل طعامها من هجر آلهتها ولو كان ابنها، وأخرجته من دارها، وهيتقول له: اذهب لشأنك لم أعد لك أمًّا، ورغم كل هذا يقترب مصعب من أمه ويقول لها: ياأمه أني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي أنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله. فتجيبه غاضبة: قسمًا بالآلهة، لا أدخل في دينك، فيزري برأيي ويضعف عقلي. وعندما سمعمصعب بخروج بعض المؤمنين مهاجرين إلى الحبشة هاجر معهم، ثم عاد إلى مكة مع الذينعادوا إليها، فرآه قومه بعد رجوعه فرقت قلوبهم، وكفوا عن تعذيبه، وبعد بيعتي العقبةالأولى والثانية جاء إلى النبي ( من آمن من الأنصار، وطلبوا منه أن يرسل معهم منيقرئهم القرآن ويعلمهم أمور دينهم، فاختار الرسول ( مصعبًا ليكون أول سفير له خارجمكة، وأول مهاجر إلى المدينة المنورة. فترك مصعب مكة للمرة الثانية طاعة للهولرسوله (، وحمل أمانة الدعوة إلى الله مستعينًا بما أنعم الله عليه من عقل راجح،وخلق كريم، وأعجب أهل المدينة بزهده وإخلاصه فدخلوا في دين الله، وكان مصعب يدعوالناس إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، فأسلم على يديه سادة أهل المدينة،مثل: أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ. وتمضي الأيام والأعوام، ويهاجر الرسول ( وأصحابهإلى المدينة، وتغضب قريش، وتعد العدة لقتال المسلمين، ويلتقي جيش المسلمين والكفارفي غزوة بدر، وينتصر المسلمون، وتجيء غزوة أحد، ويختار الرسول ( مصعبًا ليحملاللواء. ونشبت معركة رهيبة واحتدم القتال، وكان النصر أول الأمر للمسلمين، ولكنسرعان ما تحول النصر إلى هزيمة لما خالف الرماة أمر رسول الله (، ونزلوا من فوقالجبل يجمعون الغنائم، وأخذ المشركون يقتلون المسلمين، وبدأت صفوف المسلمين تتمزق. وركز أعداء الإسلام على الرسول ( وأخذوا يتعقبونه، فأدرك مصعب هذا الخطر، وصاحمكبرًا، ومضى يجول ويصول، وهمه أن يلفت أنظار الأعداء إليه؛ ليشغلهم عن رسول الله (، وتجمع حوله الأعداء، فضرب أحدهم يده اليمنى فقطعها، فحمل مصعب اللواء بيدهاليسرى، فضرب يده اليسرى فقطعها، فضم مصعب اللواء إلى صدره بعضديه، وهو يقول: ومامحمد إلا رسول الله قد خلت من قبله الرسل، فضربه أعداء الله ضربة ثالثة فقتلوه،واستشهد مصعب. وبعد انتهاء المعركة جاء الرسول ( وأصحابه يتفقدون أرض المعركة،ويودِّعون شهداءها، وعند جثمان مصعب سالت الدموع وفيرة غزيرة، ولم يجدوا شيئًايكفنونه فيه إلا ثوبه القصير، إذا غطوا به رأسه انكشفت رجلاه، وإذا وضعوه على رجليهظهرت رأسه، فقال النبي (: (غطوا رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر (نبات له رائحةطيبة)) [البخاري]. ومضى مصعب إلى رحاب الله سبحانه، وصدق فيه قول الله تعالى: {منالمؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومابدلوا تبديلا} [الأحزاب: 32]، وقال الرسول ( وهو ينظر إلى شهداء أحد: (أشهد أنهؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فوالذي نفسي بيده لا يسلِّم عليهم أحد إلى يومالقيامة إلا ردوا عليه) [الحاكم والبيهقي[.

(13)بلال بن رباح

مؤذن الرسول
بلال بن رباح

إنه بلال بن رباح الحبشي -رضي الله عنه-، وكان بلالقد بدأ يسمع عن الرسول الذي جاء بدين جديد، يدعو إلى عبادة الله وحده، وترك عبادةالأصنام، ويحث على المساواة بين البشر، ويأمر بمكارم الأخلاق، وبدأ يصغي إلى أحاديثزعماء قريش وهم يتحدثون عن محمد. سمعهم وهم يتحدثون عن أمانته، ووفائه، وعن رجولته،ورجاحة عقله، سمعهم وهم يقولون: ما كان محمد يومًا كاذبًا، ولا ساحرًا، ولامجنونًا، وأخيرًا سمعهم وهم يتحدثون عن أسباب عداوتهم لمحمد (.

فذهب بلال إلىرسول الله ( ليسلم لله رب العالمين، وينتشر خبر إسلام بلال في أنحاء مكة، ويعلمسيده أمية بن خلف فيغضب غضبًا شديدًا، وأخذ يعذب بلالا بنفسه؛ لقد كانوا يخرجون بهإلى الصحراء في وقت الظهيرة، ذلك الوقت التي تصير فيه الصحراء كأنها قطعة من نار،ثم يطرحونه عاريًا على الرمال الملتهبة، ويأتون بالحجارة الكبيرة، ويضعونها فوقجسده، ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم، ويظل بلال صابرًا مصممًا على التمسك بدينه،فيقول له أمية بن خلف: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى،فيقول بلال: أحد.. أحد!!

لقد هانت على بلال نفسه بعدما ذاق طعم الإيمان، فلم يعديهتم بما يحدث له في سبيل الله، ثم أمر زعماء قريش صبيانهم أن يطوفوا به في شعابمكة وشوارعها ليكون عبرة لمن تحدثه نفسه أن يتبع محمدًا، وبلال لا ينطق إلا كلمةواحدة، هي: أحد.. أحد، فيغتاظ أمية ويتفجر غمًّا وحزنًا، ويزداد عذابهلبلال.

وذات يوم، كان أمية بن خلف يضرب بلالاً بالسوط، فمرَّ عليه أبو بكرالصديق -رضي الله عنه-، فقال له: يا أمية ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ إلى متىستظل تعذبه هكذا؟ فقال أمية لأبي بكر: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى، وواصل أمية ضربهلبلال، وقد يئس منه، فطلب أبو بكر شراءه، وأعطى أمية ثلاث أواق من الذهب نظير أنيترك بلالا، فقال أمية لأبي بكر الصديق: فواللات والعزى، لو أبيت إلا أن تشتريهبأوقية واحدة لبعتكه بها، فقال أبو بكر: والله لو أبيت أنت إلا مائة أوقية لدفعتها،وانطلق أبو بكر ببلال إلى رسول الله ( يبشره بتحريره.


وبعد هجرة النبي ( والمسلمين إلى المدينة واستقرارهم بها، وقع اختيار الرسول ( على بلال ليكون أولمؤذن للإسلام، ولم يقتصر دور بلال على الأذان فحسب، بل كان يشارك النبي ( في كلالغزوات، ففي غزوة بدر أول لقاء بين المسلمين وقريش دفعت قريش بفلذات أكبادها،ودارت حرب عنيفة قاسية انتصر فيها المسلمون

انتصارًا عظيمًا.

وفي أثناءالمعركة لمح بلال أمية بن خلف، فيصيح قائلاً: رأس الكفر
أمية بن خلف، لا نجوتُإن نجا، وكانت نهاية هذا الكافر على يد بلال، تلك اليد التي كثيرًا ما طوقها أميةبالسلاسل من قبل، وأوجع صاحبها ضربًا بالسوط.
وعاش بلال مع رسول الله ( يؤذنللصلاة، ويحيي شعائر هذا الدين العظيم الذي أخرجه من الظلمات إلى النور، ومن رقِّالعبودية إلى الحرية، وكل يوم يزداد بلال قربًا من قلب رسول الله ( الذي كان يصفهبأنه رجل من أهل الجنة، ومع كل هذا، ظل بلال كما هو كريمًا متواضعًا لا يرى لنفسهميزة على أصحابه.
وذات يوم ذهب بلال يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين، فقال لأبيهما: أنا بلال، وهذا أخي، عبدان من الحبشة، كنا ضالين فهدانا الله، وكنا عبدين فأعتقناالله، إن تزوجونا فالحمد لله، وإن تردونا فلا حول ولا قوة إلا بالله. فزوجوهما،وكان بلال -رضي الله عنه- عابدًا لله، ورعًا، كثير الصلاة، قال له النبي ( ذات يومبعد صلاة الصبح: (حدِّثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فأني قد سمعت الليلة خشفةنعليك (صوت نعليك) بين يدي في الجنة)، فقال بلال:
ما عملت عملا أرجى من أني لمأتطهر طهورًا تامًا في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت لربي ما كتب لي أن أصلي. [البخاري].
وحزن بلال حزنًا شديدًا لوفاة النبي (، ولم يستطع أن يعيش في المدينةبعدها، فاستأذن من الخليفة أبي بكر في الخروج إلى الشام ليجاهد في سبيل الله، وذكرله حديث رسول الله (: (أفضل عمل المؤمنين جهاد في سبيل الله) [الطبراني]. وذهب بلالإلى الشام، وظل يجاهد بها حتى
توفي -رضي الله عنه-.


(14) عمار بن ياسر


الطيب المطيب
عمار بن ياسر

إنه عمَّار بن ياس-رضي الله عنه-، كان هو وأبوهياسر وأمه سمية بنت خياط من أوائل الذين دخلوا في الإسلام، وكان أبوه قد قدم مناليمن، واستقر بمكة، ولما علم المشركون بإسلام هذه الأسرة أخذوهم وعذبوهم عذابًاشديدًا، فمر عليهم الرسول ( وقال لهم: (صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة) [الطبرانيوالحاكم].

وطعن أبو جهل السيدة سمية فماتت، لتكون أول شهيدة في الإسلام، ثم يلحقبها زوجها ياسر، وبقى عمار يعاني العذاب الشديد، فكانوا يضعون رأسه في الماء،ويضربونه بالسياط، ويحرقونه بالنار، فمرَّ عليه الرسول (، ووضع يده الشريفة علىرأسه وقال: (يا نار كوني بردًا وسلامًا على عمار كما كنت بردًا وسلامًا علىإبراهيم) [ابن سعد].

وذات يوم، لقى عمار النبي ( وهو يبكي، فجعل ( يمسح عن عينيهويقول له: (أخذك الكفار فغطوك في النار) [ابن سعد]، واستمر المشركون في تعذيب عمار،ولم يتركوه حتى ذكر آلهتهم وأصنامهم بخير، وعندها تركوه، فذهب مسرعًا إلى النبي (،فقال له النبي (: ما وراءك؟ قال: شرٌّ يا رسول الله، والله ما تركت حتى نلت منك (أيذكرتك بسوء) وذكرت آلهتهم بخير، فقال له النبي (:

(فكيف تجدك؟)، قال: مطمئنبالإيمان، قال: (فإن عادوا فعد) [ابن سعد والحاكم]. ونزل فيه قول الله تعالى: {إلامن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} _[النحل: 106].

وهاجر عمار إلى الحبشة، ثم هاجرإلى المدينة، وشارك مع النبي ( في جميع الغزوات، حتى إنه قال ذات يوم: قاتلت معرسول الله ( الجن والإنس فسأله الصحابة: وكيف؟ فقال: كنا مع النبي (، فنزلنامنزلاً، فأخذت قربتي ودلوي لأستقي، فقال (: (أما إنه سيأتيك على الماء آت يمنعكمنه)، فلما كنت على رأس البئر إذا برجل أسود، فقال: والله لا تستقي اليوم منها،فأخذني وأخذته (تشاجرنا) فصرعته ثم أخذت حجرًا، فكسرت وجهه وأنفه، ثم ملأت قربتيوأتيت رسول الله (، فقال: (هل أتاك على الماء أحد؟) قلت: نعم، فقصصت عليه القصةفقال: (أتدرى من هو؟)، قلت: لا، قال: (ذاك الشيطان).

[ابن سعد].
وذات يوماستأذن عمار -رضي الله عنه- الرسول ( ليدخل فقال (: (من هذا؟) قال: عمار، فقال (: (مرحبًا بالطيب المطيب) [الترمذي والحاكم].
وذات يوم حدث بين عمار وخالد بنالوليد كلام، فأغلظ خالد لعمار، فشكاه إلى النبي (، فقال (: (من عادى عمارًا عاداهالله، ومن أبغض عمارًا أبغضه الله) [النسائي وأحمد]، فخرج خالد من عند الرسول ( ومامن شيء أحب إليه من رضا عمار، وكلمه حتى رضي عنه.
وقال النبي (: (إن عمارًا مُلئإيمانًا إلى مشاشه (أي إلى آخر جزء فيه)) [النسائي والحاكم]. وأمر النبي ( المسلمينأن يتبعوا عمارًا ويقتدوا به، فقال (: (اقتدوا باللذين من بعدى أبي بكر وعمرواهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد (عبد الله ابن مسعود)) [أحمد].
وجاءرجل إلى ابن مسعود فقال: إن الله قد أمننا من أن يظلمنا، ولم يؤمنا من أن يفتنا،أرأيت إن أدركت الفتنة؟ قال: عليك بكتاب الله، قال: أرأيت إن كان كلهم يدعو إلىكتاب الله؟ قال: سمعت رسول الله ( يقول: (إذا اختلف الناس كان ابن سمية (عمار) معالحق) [الحاكم].
وبعد وفاة النبي (، اشترك عمار مع الصديق أبي بكر -رضي اللهعنه- في محاربة المرتدين، وأظهر شجاعة فائقة في معركة اليمامة حتى قال
ابن عمر -رضي الله عنه- في شجاعته: رأيت عمار بن ياسر -رضي الله عنه- يوم اليمامة على صخرةوقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين، أمن الجنة تفرون؟! أنا عمار بن ياسر، أمن الجنةتفرون؟! أنا عمار بن ياسر، هلمَّ إليَّ، وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت فهي تذبذب (تتحرك) وهو يقاتل أشد القتال.
وبعد أن تولى عمر بن الخطاب الخلافة، ولى عمارًاعلى الكوفة ومعه
عبد الله بن مسعود وبعث بكتاب إلى أهلها يقول لهم فيه: أما بعد،فأني بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرًا وابن مسعود معلمًا ووزيرًا، وإنهما لمنالنجباء من أصحاب محمد (، من أهل بدر، فاسمعوا لهما وأطيعوا، واقتدوا بهما.
وكانعمار متواضعًا زاهدًا سمحًا كريمًا فقد سبَّه رجل وعيَّره ذات مرة بأذنه التي قطعتفي سبيل الله، وقال له: أيها الأجدع، فقال لها عمار: خير أذني سببت، فإنها أصيبت معرسول الله (. وكان يقول: ثلاثة من كن فيه فقد استكمل الإيمان: الإنفاق في الإقتار،والإنصاف من النفس، وبذل السلام للعالم.
وفي يوم صفين كان عمار في جيش علي، وقبلبداية المعركة شعر عمار بالعطش، فإذا بامرأة تأتيه وفي يدها إناء فيه لبن فشرب منه،وتذكر قول الرسول ( له: (آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن) [أحمد]، ثم قال فيجموع المقاتلين: الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسنة، وقد فتحت أبوابالجنة، وتزينت الحور العين، اليوم ألقى الأحبة محمدًا وحزبه (أصحابه) ثم تقدمللقتال فاستشهد سنة(37هـ)، وكان عمره آنذاك (93) سنة، ودفنه الإمام عليُّ، وصلىعليه.


(15)حمزة بن عبد المطلب


سيد الشهداء
حمزة بن عبد المطلب

إنه حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- عمالرسول ( وأخوه في الرضاعة، وكان قد ولد قبل النبي ( بسنتين، وأرضعتهما ثويبة مولاةأبي لهب، وكان يكنى بأبي عمارة وكان حمزة صديقًا لابن أخيه محمد ( قبل البعثة، حيثعاشا سويًّا، وتربيا معًا.

أسلم في السنة الثانية بعد البعثة النبوية، وقيل: فيالسنة السادسة بعد دخول الرسول ( دار الأرقم؛ حيث كان حمزة -رضي الله عنه- في رحلةصيد، ومرَّ أبو جهل على رسول الله ( عند الصفا فآذاه وسبه وشتمه، ورسول الله ( ساكتلا يتكلم ولا يرد عليه، وكانت خادمة لعبد الله بن جدعان تسمع ما يقول أبوجهل.

فانتظرت حتى عاد حمزة من رحلته، وكان يمسك قوسه في يده، فقالت له الخادمة: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد من أبي الحكم بن هشام (أبي جهل)، وجدههاهنا جالسًا فآذاه وسبه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه، ولم يكلمه محمد (، فغضبحمزة، وأسرع نحو أبي جهل فوجده في جمع من قريش، فضربه حمزة بالقوس في رأسه، وأصابهإصابة شديدة، ثم قال له: أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول، فرد ذلك عليَّ إناستطعت؟ فقام جماعة من بني مخزوم (قبيلة أبي جهل) إلى حمزة ليضربوه، فقال لهم أبوجهل: دعوا أبا عمارة فأني والله قد سببت ابن أخيه سبًّا قبيحًا. [ابنهشام].


فلما أصبح ذهب إلى الكعبة، ثم توجه إلى الله بالدعاء أن يشرح صدره للحق؛فاستجاب الله له، وملأ قلبه بنور اليقين والإيمان، فذهب حمزة إلى رسول الله

( ليخبره بما كان من أمره، ففرح رسول الله ( بإسلامه فرحًا شديدًا ودعا له.
هكذاأعز الله حمزة بالإسلام، وأعز الإسلام به، فكان نصرًا جديدًا وتأييدًا لدين اللهولرسوله (، وما إن سمع المشركون بإسلام حمزة حتى تأكدوا من أن رسول الله ( صار فيعزة ومنعة، فكفوا عن إيذائه، وبدءوا يسلكون معه سياسة أخرى، وهي سياسة المفاوضات،فجاء
عتبة بن ربيعة يساوم النبي ( ويعرض عليه ما يشاء من أموال
أو مجد أوسيادة.
واستمر حمزة -رضي الله عنه- في جهاده ودفاعه عن رسول الله ( حتى أذن اللهللمسلمين بالهجرة إلى المدينة المنورة، فهاجر حمزة، وهناك آخى الرسول ( بينه وبينزيد بن حارثة، وشهد حمزة غزوة بدر مع النبي (، وفي بداية المعركة هجم أحد المشركينويدعى الأسود بن عبد الأسود على بئر للمسلمين وقال: أعاهد الله لأشربنَّ من حوضهمأو لأهدمنَّه أو لأمُوتَنَّ دُونَهُ، فتصدى له حمزة فضربه ضربة في ساقه، فأخذالأسود يزحف نحو البئر فتبعه حمزة وقتله.
وبعدها برز ثلاثة من المشركين وهم عتبةبن ربيعة وأخوه شيبة وابنه
الوليد بن عتبة، فخرج إليهم فتية من الأنصار، فنادوا: يا محمد.. أَخْرِج إلينا أكفاءنا من قومنا. فقال (: قم يا عبيدة بن الحارث، قم ياحمزة، قم يا علي، فبارز عبيدة عتبة، وبارز علي الوليد، وبارز حمزة شيبة، ولم يمهلحمزة شيبة حتى قتله، وكذلك فعل عليٌّ مع خصمه الوليد، أما عبيدة وعتبة فقد جرح كلمنهما الآخر، فأسرع حمزة وعلي بسيفيهما على عتبة فقتلاه.
وكان حمزة في ذلك اليومقد وضع ريشة على رأسه، فظل يقاتل بشجاعة حتى قتل عددًا كبيرًا من المشركين، ولماانتهت المعركة، كان أمية بن خلف ضمن أسرى المشركين، فسأل: من الذي كان معلَّمًابريشة؟ فقالوا: إنه حمزة، فقال: ذلك الذي فعل بنا الأفاعيل. ولقد أبلى حمزة في هذهالمعركة بلاء حسنًا، لذلك سماه رسول الله (: أسد الله، وأسد رسوله.
وأقسمت هندبنت عتبة أن تنتقم من حمزة ؛ لأنه قتل أباها عتبة وعمها وأخاها في بدر، وكذلك أرادجبير بن مطعم أن ينتقم من حمزة لقتل عمه
طعيمة بن عدى، فقال لعبده وحشي، وكانيجيد رمي الرمح: إن قتلت حمزة فأنت حر.
وجاءت غزوة أحد وأبلى حمزة -رضي اللهعنه- بلاءً شديدًا، وكان يقاتل بين يدي رسول الله ( بسيفين ويقول: أنا أسد الله. فلما تراجع المسلمون اندفع حمزة نحو رسول الله ( يقاتل المشركين، واختبأ وحشيلحمزة، وضربه ضربة شديدة برمحه فأصابته في مقتل، واستشهد البطل الشجاع حمزة -رضيالله عنه-.
ورآه النبي ( بعد انتهاء المعركة بين الشهداء قد مثل به، فقطعت أنفهوأذنه وشقت بطنه، فحزن عليه ( حزنًا شديدًا، وقال: (لولا أن تجد (تحزن) صفية فينفسها لتركته حتى تأكله العافية (دواب الأرض والطير) حتى يحشر من بطونها إكرامًا لهوتعظيمًا) [أبو داود]. وقال (: (سيد الشهداء حمزة) [الحاكم]. وصلى النبي ( على حمزةوشهداء أُحد السبعين.


(16)الأرقم بن أبي الأرقم


صاحب دار الدعوة
الأرقم بن أبي الأرقم

إنه الصحابي الجليل الأرقم بن أبيالأرقم القرشي المخزومي -رضي الله عنه- وكنيته أبو عبد الله، أحد السابقين إلىالإسلام، قيل إنه سابع من أسلم، وقيل بل عاشر من أسلم. وفي الدار التي كان يمتلكهاالأرقم على جبل الصفا، كان النبي ( يجتمع بأصحابه بعيدًا عن أعين المشركين؛ ليعلمهمالقرآن وشرائع الإسلام، وفي هذه الدار أسلم كبار الصحابة وأوائل المسلمين، وهاجرالأرقم إلى المدينة، وفيها آخى رسول الله ( بينه وبين

زيد بن سهل -رضي اللهعنهما-.


وشهد الأرقم بن أبي الأرقم بدرًا وأحدًا والغزوات كلها، ولم يتخلف عنالجهاد، وأعطاه رسول الله ( دارًا بالمدينة. وروى أن الأرقم -رضي الله عنه- تجهزيومًا، وأراد الخروج إلى بيت المقدس، فلما فرغ من التجهيز والإعداد، جاء إلى النبي ( يودعه، فقال له النبي (:

(ما يخرجك يا أبا عبد الله، أحاجة أم تجارة ؟) فقالله الأرقم: يا رسول الله! بأبي أنت وأمى، أني أريد الصلاة في بيت المقدس، فقال لهالرسول (: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) فجلسالأرقم، وعاد إلى داره مطيعًا للنبي ( ومنفذًا لأوامره. [الحاكم].
وظل الأرقميجاهد في سبيل الله، لا يبخل بماله ولا نفسه ولا وقته في سبيل نصرة الإسلاموالمسلمين حتى جاءه مرض الموت، ولما أحس -رضي الله عنه- بقرب أجله في عهد معاوية بنأبي سفيان -رضي الله عنه- أوصى بأن يصلي عليه
سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- ثممات الأرقم وكان سعد غائبًا عن المدينة آنذاك، فأراد مروان بن الحكم أمير المدينةأن يصلي عليه فرفض
عبيد الله بن الأرقم، فقال مروان: أيحبس صاحب رسول الله ( لرجل غائب؟ ورفض ابنه عبيد الله بن الأرقم أن يصلي عليه أحد غير سعد بن أبي وقاص،وتبعه بنو مخزوم على ذلك، حتى جاء سعد، وصلى عليه، ودفن بالعقيق سنة (55هـ)




(17)جعفر بن أبي طالب


ذو الجناحين
جعفر بن أبي طالب


إنه جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- شهيدمؤتة، وابن عم رسول الله

(، والشقيق الأكبر لعلي -رضي الله عنه-، أسلم مبكرًا،وأسلمت معه في نفس اليوم زوجته أسماء بنت عُميْس، وتحملا نصيبهما من الأذىوالاضطهاد في شجاعة وثبات.

كان أشبه الناس خَلْقًا وخُلُقًا بالرسول (، كنَّاهالرسول
( بأبي المساكين، ولقبه بذي الجناحين، وقال عنه حين قطعت يداه: (إن اللهأبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء) [الحاكم].
وكان جعفر -رضي اللهعنه- يحب المساكين ويطعمهم ويقربهم منه، ويحدثهم ويحدثونه، يقول عنه أبو هريرة: كانخير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب. ويقول عنه أيضًا: ما احتذى النعال، ولا ركبالمطايا، ولا وطئ التراب بعد رسول الله ( أفضل من جعفر بن أبي طالب.
ولما خافالرسول ( على أصحابه اختار لهم الهجرة إلى الحبشة، وقال لهم: (لو خرجتم إلى أرضالحبشة، فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد)، فخرج جعفر وأصحابه إلى الحبشة، فلما علمتقريش، أرسلت وراءهم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة -وكانا لم يسلما بعد-،وأرسلت معهما هدايا عظيمة إلى النجاشي ملك الحبشة؛ أملا في أن يدفع إليهم جعفروأصحابه فيرجعون بهم إلى مكة مرة ثانية ليردوهم عن دين الإسلام.
ووقف رسولا قريشعمرو وعبد الله أمام النجاشي فقالا له: أيها الملك! إنه قد ضوى (جاء) إلى بلادكغلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك (المسيحية)، بل جاءوا بدينابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم،وأعمامهم، وعشائرهم لتردهم إليهم. فلما انتهيا من كلامهما توجَّه النجاشي بوجههناحية المسلمين وسألهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، واستغنيتم به عنديننا؟
فقام جعفر وتحدث إلى الملك باسم الإسلام والمسلمين قائلاً: أيها الملك،إنا كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطعالأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا،نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى عبادة الله وحده، وخَلْعِ (ترك) ما كنانعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلةالرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور،وأكل مال اليتيم، فصدقناه وآمنا به، فعذبنا قومنا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلىعبادة الأوثان، فلما ظلمونا، وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلىبلادك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك.
استمع النجاشي إلى كلمات جعفر،فامتلأت نفسه روعة بها، ثم سأله: هل معك شيء مما أنزل على رسولكم؟ قال جعفر: نعم،فقال النجاشي: فاقرأه علي. فقرأ جعفر من سورة مريم، فبكى النجاشي، ثم توجه إلى عمرووعبد الله وقال لهما: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة (يقصد أن مصدرالقرآن والإنجيل واحد). انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما.
فأخذ عمرو يفكر في حيلةجديدة، فذهب في اليوم التالي إلى الملك وقال له: أيها الملك، إنهم ليقولون في عيسىقولاً عظيمًا، فاضطرب الأساقفة لما سمعوا هذه العبارة وطالبوا بدعوة المسلمين، فقالالنجاشي: ماذا تقولون عن عيسى؟ فقال جعفر: نقول فيه ما جاءنا به نبينا (: هو عبدالله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه. عند ذلك أعلن النجاشي أن هذا هو ماقاله عيسى عن نفسه، ثم قال للمسلمين: اذهبوا، فأنتم آمنون بأرضي، ومن سبكم أو آذاكمفعليه ما يفعل، ثم رد إلى قريش هداياهم.
وعاد جعفر والمسلمون من الحبشة بعد فتحخيبر مباشرة، ففرح الرسول ( فرحًا كبيرًا وعانقه وهو يقول: (ما أدرى بأيهما أنا أشدفرحًا؛ أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟) [الحاكم]. وبنى له الرسول ( دارًا بجوار المسجدليقيم فيها هو وزوجته أسماء بنت عميس وأولادهما الثلاثة؛ محمد،
وعبد الله، وعوف،وآخى بينه وبين معاذ بن جبل -رضي الله عنهما-.
وفي العام الثامن من الهجرة، أرسلالنبي ( جيشًا إلى الشام لقتال الروم، وجعل الرسول ( زيد بن حارثة أميرًا على الجيشوقال: (عليكم بزيد بن حارثة، فإن أصيب زيد، فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر فعبدالله بن رواحة) [أحمد والبخاري]. ودارت معركة رهيبة بين الفريقين عند مؤتة، وقتلزيد بن حارثة، فأخذ الراية جعفر، ومضى يقاتل في شجاعة وإقدام وسط صفوف الروم وهويردد بصوت عالٍ:
يَا حَبَّذَا الجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَــــا طَيَّبَةٌ،وَبَارِدٌ شَرَابُهَــــــا
وَالرُّومُ رومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَــا كَافِرَةٌبَعيِدَةٌ أنْسَابُهَــــــا
عليَّ إِذْ لاقيتها ضرابهـــا
وظل يقاتل حتىقطعت يمينه، فحمل الراية بشماله فقطعت هي الأخرى، فاحتضن الراية بعضديه حتى استشهد. يقول ابن عمر: كنت مع جعفر في غزوة مؤتة، فالتمسناه فوجدناه وبه بضع وتسعون جراحة،ما بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، وعلم الرسول ( خبر استشهاده، فذهب إلى بيت ابن عمه،وطلب أطفال جعفر وقبلهم، ودعا لأبيهم -رضي الله عنه-.
(18) عبد الله بن مسعود

أول من جهر بالقرآن

عبد الله بن مسعود

إنه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، كان مولى لعقبة بن أبي معيط، يرعى غنمه في شعاب مكة، فمرَّ عليهالنبي ( ومعه الصديق -رضي الله عنه- ذات يوم، فقال له النبي (: (يا غلام هل منلبن؟).

فقال عبد الله: نعم، ولكني مؤتمن، فقال له رسول الله (: (فهل من شاة حائللم ينـز عليها الفحل). فقال: نعم، ثم أعطاه شاة ليس في ضرعها لبن، فمسح رسول الله ( ضرعها بيده الشريفة، وهو يتمتم ببعض الكلمات، فنزل اللبن بإذن الله، فحلبه الرسول ( بيده في إناء، وشرب، وسقى أبا بكر، ثم قال النبي ( للضرع: (اقلص)، فجف منه اللبن،فقال عبد الله في دهشة وتعجب: علمني من هذا القول الذي قلته. فنظر إليه رسول الله ( في رفق ومسح على رأسه، وصدره وقال له: (إنك غُليِّم معلم)، ثم تركه وانصرف. [أحمد].
سرت أنوار الهداية في عروق ابن مسعود، فعاد إلى سيده بالغنم، ثم أسرعإلى
مكة يبحث عن ذلك الرجل وصاحبه حتى وجده، وعرف أنه نبي مرسل، فأعلن
ابنمسعود إسلامه بين يديه، وكان بذلك سادس ستة يدخلون في الإسلام، وذات يوم، اجتمعأصحاب النبي (، فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجليسمعهموه؟ فقام عبد الله، وقال: أنا. فقالوا له: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاًله عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه. قال: دعوني، فإن الله سيمنعني. ثم ذهب إلىالكعبة، وكان في وقت الضحى، فجلس ورفع صوته بالقرآن، وقرأ مسترسلاً: {بسم اللهالرحمن الرحيم. الرحمن . علم القرآن} [الرحمن: 1-2]، فنظر إليه أهل مكة في تعجبودهشة، فمن يجرؤ على أن يفعل ذلك في ناديهم؟ وأمام أعينهم؟! فقالوا في دهشة: ماذايقول ابن أم عبد؟!
ثم أنصتوا جيدًا إلى قوله، وقالوا في غضب: إنه ليتلو بعض ماجاء به محمد، ثم قاموا إليه، وضربوه ضربًا شديدًا، وهو يستمر في قراءته حتى أجهدهالضرب، وبلغ منه الأذى مبلغًا عظيمًا، فكفَّ عن القراءة، فتركه أهل مكة وهم لايشكون في موته، فقام إليه أصحابه، وقد أثَّر الضرب في وجهه وجسده، فقالوا له: هذاالذي خشينا عليك. فقال: ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم الآن، ولئن شئتملأغادينهم بمثلها غدًا (أي أفعل ذلك مرة أخرى)، قالوا: لا، لقد أسمعتهم مايكرهون.
وهاجر ابن مسعود الهجرتين، وآخى رسول الله ( بينه وبين الزبير بن العوام -رضي الله عنه- في المدينة، وكان ابن مسعود من أحرص المسلمين على الجهاد في سبيلالله، شارك في جميع غزوات المسلمين، ويوم بدر ذهب عبد الله إلى رسول الله ( مبشرًاله، وقال: يا رسول الله، أني قتلت أبا جهل، ففرح بذلك رسول الله (، ووهبهسيف
أبي جهل مكافأة له على ذلك.
وكان ابن مسعود أعلم أصحاب رسول الله بقراءةالقرآن، ومن أنداهم صوتًا به، ولذا كان رسول الله ( يقول: (استقرئوا القرآن منأربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل) [البخاري].
وقال (: (من سره أن يقرأ القرآن غضًّا كما أنزل، فليقرأه على قراءةابن أم عبد) [البزار].
وكان رسول الله ( يحب سماع القرآن منه، فقال له ذات مرة: (اقرأ عليَّ)، فقال عبد الله: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: (أني أحب أن أسمعه منغيري)، فقرأ ابن مسعود من سورة النساء حتى وصل إلى قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا منكل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} [النساء: 14]، فبكى رسول الله ( وقال: (حسبك الآن) [البخاري].
وكان ابن مسعود يقول: أخذت من فم رسول الله ( سبعينسورة. وكان يقول عن نفسه كذلك: أني لأعلم الصحابة بكتاب الله، وما أنا بخيرهم، ومافي كتاب الله سورة ولا آية إلا وأنا أعلم فيما نزلت ومتى نزلت.
وكان عبد الله بنعباس -رضي الله عنه- يقول: كان النبي ( يعرض القرآن على جبريل في كل عام مرة، فلماكان العام الذي مات فيه النبي ( عرضه عليه مرتين، وحضر ذلك عبد الله بن مسعود، فعلمما نسخ من ذلك وما بدل.
وقال حذيفة -رضي الله عنه-: لقد علم المحفظون من أصحابرسول الله ( أن عبد الله بن مسعود كان من أقربهم وسيلة إلى الله يوم القيامة،وأعلمهم بكتاب الله. وكان عبد الله شديد الحب لله ولرسوله (، وظل ملازمًا للنبي (،يسير معه حيث سار، يخدم النبي (، يلبسه نعله، ويوقظه إذا نام، ويستره إذااغتسل.
وكان النبي ( يحبه ويقربه منه، ويدنيه ويقول له: (إذنك عليَّ أن يرفعالحجاب، وأن تستمع سوادي (أسراري) حتى أنهاك) [مسلم]. فسمي عبد الله بن مسعود منذذلك اليوم بصاحب السواد والسواك، وقد بشره رسول الله ( بالجنة، وكان يقول عنه: لوكنت مؤمرًا أحدًا (أي مستخلفًا أحدًا) من غير مشورة منهم لأمرت (أي استخلفت) عليهمابن أم عبد) [الترمذي].
وقال (: (وتمسكوا بعهد ابن مسعود) _[الترمذي]، وروي عنه ( أنه قال: (رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد) [الحاكم].
ويروى أن رسول الله ( أمر عبد الله بن مسعود أن يصعد شجرة فيأتيه بشيء منها، فلما رأى أصحابه ساقيهضحكوا، فقال (: (ما تضحكون؟ لَرِجْلُ عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة منأحد)
[أحمد وابن سعد وأبو نعيم].
وفي خلافة الفاروق -رضي الله عنه- أرسل عمرإلى أهل الكوفة عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما-، وقال: عمارأمير، وابن مسعود معلم ووزير، ثم قال لأهل الكوفة: لقد آثرتكم بعبد الله بن مسعودعلى نفسي. وجاء رجل من أهل الكوفة إلى عمر في موسم الحج، فقال له: يا أميرالمؤمنين، جئتك من الكوفة، وتركت بها رجلاً يحكى المصحف عن ظهر قلب. فقال عمر: ويحك؛ ومن هو؟ فقال الرجل: هو عبد الله بن مسعود. فقال عمر: والله، ما أعلم منالناس أحدًا هو أحق بذلك منه.
وكان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عالماحكيمًا، ومن أقواله المأثورة قوله: أيها الناس، عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبلالله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة. وكان -رضيالله عنه- يقول: أني لأمقت (أكره) الرجل إذ أراه فارغًا، ليس في شيء من عمل الدنياولا عمل الآخرة.
وعندما مرض عبد الله بن مسعود مرض الموت، دخل عليه أميرالمؤمنين
عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يزوره، وقال له: أنأمر لك بطبيب؟فقال
عبد الله: الطبيب أمرضني. فقال عثمان: نأمر لبناتك بمال، وكان عنده تسعبنات، فقال عبد الله: لا، أني علمتهن سورة، ولقد سمعت رسول الله ( يقول: (من قرأسورة الواقعة لا تصيبه الفاقة أبدًا) [ابن عساكر].
ويلقى ابن مسعود ربه على ذلكالإيمان الصادق، واليقين الثابت، طامعًا فيما
عند الله، زاهدًا في نعيم الدنياالزائف، فيموت -رضي الله عنه- سنة (32 هـ)، وعمره قد تجاوز (60) عامًا ويدفنبالبقيع. وقد روى ابن مسعود -رضي الله عنه- كثيرًا من أحاديث رسول الله (، وروى عنهبعض الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم-.








(19)صهيب الرومي


سابق الروم

صهيب الرومي

إنه الصحابي الجليل صهيب بن سنان الرومى، وقد كانصهيب في بداية حياته غلامًا صغيرًا يعيش في العراق في قصر أبيه الذي ولاه كسرى ملكالفرس حاكمًا على الأُبُلَّة (إحدى بلاد العراق)، وكان من نسل أولاد النمر بن قاسطمن العرب، وقد هاجروا إلى العراق منذ زمنٍ بعيد، وعاش سعيدًا ينعم بثراء أبيه وغناهعدة سنوات.

وذات يوم، أغار الروم على الأبلة بلد أبيه، فأسروا أهلها، وأخذوهعبدًا، وعاش العبد العربي وسط الروم، فتعلم لغتهم، ونشأ على طباعهم، ثم باعه سيدهلرجل من مكة يدعى عبد الله بن جدعان، فتعلم من سيده الجديد فنون التجارة، حتى أصبحماهرًا فيها، ولما رأى عبد الله بن جدعان منه الشجاعة والذكاء والإخلاص في العمل،أنعم عليه فأعتقه.
وعندما أشرقت في مكة شمس الإسلام، كان صهيب ممن أسرع لتلبيةنداء الحق، فذهب إلى دار الأرقم، وأعلن إسلامه أمام رسول الله (، ولم يَسْلَم صهيبمن تعذيب مشركي مكة، فتحمل ذلك في صبر وجلد؛ ابتغاء مرضاة الله وحبًّا لرسوله (،وهاجر النبي ( بعد أصحابه إلى المدينة، ولم يكن صهيب قد هاجر بعد، فخرج ليلحق بهم،فتعرض له أهل مكة يمنعونه من الهجرة؛ لأنهم رأوا أن ثراء صهيب ليس من حقه، لأنه جاءإلى بلادهم حينما كان عبدًا فقيرًا، فلا يحق له أنه يخرج من بلادهم بماله وثرائه،وصغر المال في عين صهيب، وهان عليه كل ما يملك في سبيل الحفاظ على دينه، فساومهمعلى أن يتركوه، ويأخذوا ماله، ثم أخبرهم بمكان المال، وقد صدقهم في ذلك، فهو لايعرف الكذب أو الخيانة.
وكان صهيب تاجرًا ذكيًّا، فتاجر بماله ونفسه في سبيلمرضاة ربه، فربح بيعه، وعظم أجره، واستحق أن يكون أول ثمار الروم في الإسلام،واستحقَّ ما روي عن رسول الله أنه قال: (صهيب سابق الروم) [ابن سعد]. وشارك صُهيبفي جميع غزوات الرسول (، فها هو ذا يقول: لم يشهد رسول الله
( مشهدًا قط إلا كنتحاضره، ولم يبايع بيعة قط إلا كنت حاضرها، ولم يسر سرية قط إلا كنت حاضرها، ولا غزاغزوة قط إلا كنت فيها عن يمينه أو شماله، وما خافوا أمامهم قط إلا كنت أمامهم، ولاما وراءهم إلا كنت وراءهم، وما جعلت رسول الله ( بيني وبين العدو قط حتىتُوُفِّي.
وواصل جهاده مع الصديق ثم مع الفاروق عمر -رضي الله عنهما-، وكان بطلاشجاعًا، وكان كريمًا جوادًا، يطعم الطعام، وينفق المال، قال له عمر -رضي الله عنه- يومًا: لولا ثلاث خصال فيك يا صهيب، ما قدمت عليك أحدًا، أراك تنتسب عربيًّا ولسانكأعجمي، وتُكنى بأبي يحيي، وتبذر مالك. فأجابه صهيب: أما تبذيري مالي فما أنفقه إلافي حقه، وأما اكتنائي بأبي يحيى، فإن رسول الله ( كناني بأبي يحيى فلن أتركها، وأماانتمائي إلى العرب، فإن الروم سبتني صغيرًا، فأخذت لسانهم (لغتهم)، وأنا رجل منالنمر بن قاسط.
[ابن سعد].
وكان عمر -رضي الله عنه- يعرف لصهيب فضله ومكانته،فعندما طُعن -رضي الله عنه- أوصى بأن يصلي صهيب بالناس إلى أن يتفق أهل الشورى علىأحد الستة الذين اختارهم قبل موته للخلافة؛ ليختاروا منهم واحدًا، وكان صهيب طيبالخلق، ذا مداعبة وظُرف، فقد رُوي أنه أتى المسجد يومًا وكانت إحدى عينيه مريضة،فوجد الرسول ( وأصحابه جالسين في المسجد، وأمامهم رطب، فجلس يأكل معهم، فقال لهالنبي ( مداعبًا: (تأكل التمر وبك رمد؟) فقال صهيب: يا رسول الله، أني أمضغ منناحية أخرى (أي: آكل على ناحية عيني الصحيحة). [ابن ماجه]، فتبسم رسول الله (.
وظل صهيب يجاهد في سبيل الله حتى كانت الفتنة الكبرى، فاعتزل الناس، واجتنبالفتنة، وأقبل على العبادة حتى مات -رضي الله عنه- بالمدينة سنة (38هـ)، وعمرهآنذاك (73) سنة، ودفن بالبقيع. وقد روى صهيب -رضي الله عنه- عن النبي ( أحاديثكثيرة، وروى عنه بعض الصحابة والتابعين -رضوان الله عليهم أجمعين-.








(20)عمرو بن العاص



فاتح مصر

عمرو بن العاص

إنه الصحابي الجليل عمرو بن العاص بن وائل السهمي -رضي الله عنه- أحد فرسان قريش وأبطالها، أذكى رجال العرب، وأشدهم دهاءً وحيلة،أسلم قبل فتح مكة، وكان سبب إسلامه أنه كان كثير التردد على الحبشة، وكان صديقًالملكها النجاشي، فقال له النجاشي ذات مرة: يا عمرو، كيف يعزب عنك أمر ابن عمك؟فوالله إنه لرسول الله حقًا. قال عمرو: أنت تقول ذلك؟ قال: أي والله، فأطعني. [ابنهشام وأحمد]. فخرج عمرو من الحبشة قاصدًا المدينة، وكان ذلك في شهر صفر سنة ثمان منالهجرة، فقابله في الطريق خالد بن الوليد

وعثمان بن طلحة، وكانا في طريقهما إلىالنبي ( فساروا جميعًا إلى المدينة، وأسلموا بين يدي رسول الله (، وبايعوه.
أرسلإليه الرسول ( يومًا فقال له: (خذ عليك ثيابك، وسلاحك، ثم ائتني)، فجاءه، فقال لهرسول الله (: (أني أريد أن أبعثك على جيش، فيسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك رغبة صالحةمن المال). فقال: يا رسول الله، ما أسلمتُ من أجل المال، ولكنى أسلمتُ رغبة فيالإسلام، ولأن أكون مع رسول الله (. فقال (:
(نعم المال الصالح للرجل الصالح) [أحمد].
وكان عمرو بن العاص مجاهدًا شجاعًا يحب الله ورسوله، ويعمل على رفع لواءالإسلام ونشره في مشارق الأرض ومغاربها، وكان رسول الله ( يعرف لعمرو شجاعته وقدرتهالحربية، فكان يوليه قيادة بعض الجيوش والسرايا، وكان يحبه ويقربه، ويقول عنه: (عمرو بن العاص من صالحي قريش، نعم أهل البيت أبو عبد الله، وأم عبد الله، وعبدالله) [أحمد]. وقال (: (ابنا العاص مؤمنان، عمرو وهشام) [أحمد والحاكم].
وقد وجهرسول الله ( سرية إلى ذات السلاسل في جمادى الآخرة سنة ثمان من الهجرة، وجعل أميرهاعمرو بن العاص رضي الله عنه، وقد جعل النبي ( عمرو بن العاص واليًا على عُمان، فظلأميرًا عليها حتى توفي النبي ( . وقد شارك عمرو بن العاص في حروب الردة وأبلى فيهابلاءً حسنًا.
وفي عهد الفاروق عمر -رضي الله عنه- تولى عمرو بن العاص إمارةفلسطين، وكان عمر يحبه ويعرف له قدره وذكاءه، فكان يقول عنه: ما ينبغي لأبي عبدالله أن يمشي على الأرض إلا أميرًا. [ابن عساكر]، وكان عمر إذا رأى رجلاً قليلالعقل أو بطيء الفهم يقول: خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد.
وكان عمرو يتمنىأن يفتح الله على يديه مصر، فظل يحدث عمر بن الخطاب عنها، حتى أقنعه، فأمَّرهالفاروق قائدًا على جيش المسلمين لفتح مصر وتحريرها من أيدي الروم، فسار عمروبالجيش واستطاع بعد كفاح طويل أن يفتحها، ويحرر أهلها من ظلم الرومان وطغيانهم،ويدعوهم إلى دين الله عز وجل، فيدخل المصريون في دين الله أفواجًا.
وأصبح عمروبن العاص واليًا على مصر بعد فتحها، فأنشأ مدينة الفسطاط، وبنى المسجد الجامع الذييعرف حتى الآن باسم جامع عمرو، وكان شعب مصر يحبه حبًا شديدًا، وينعم في ظله بالعدلوالحرية ورغد العيش، وكان عمرو يحب المصريين ويعرف لهم قدرهم، وظل عمرو بن العاصواليًا على مصر حتى عزله عنها عثمان ابن عفان -رضي الله عنه-، ثم توفي عثمان، وجاءتالفتنة الكبرى بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما-، فوقف عمرو بن العاص بجانب معاوية،حتى صارت الخلافة إليه.
فعاد عمرو إلى مصر مرة ثانية، وظل أميرًا عليها حتىحضرته الوفاة، ومرض مرض الموت، فدخل عليه ابنه عبد الله -رضي الله عنه-، فوجدهيبكي، فقال له: يا أبتاه! أما بشرك رسول الله ( بكذا؟ أما بشرك رسول الله ( بكذا؟فأقبل بوجهه فقال: أني كنت على أطباق ثلاث (أحوال ثلاث)، لقد رأيتني وما أحد أشدبغضًا لرسول الله ( مني، ولا أحب إلى أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو مت علىتلك الحال لكنت من أهل النار.
فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي ( فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال فقبضت يدي، فقال: (مالك يا عمرو؟) قال: قلت: أردت أن أشترط: قال: (تشترط بماذا؟) قلت: أن يغفر لي، قال: (أما علمت أن الإسلاميهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟)، وماكان أحد أحب إلى من رسول الله ( ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عينيمنه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأنني لم أكن أملأ عيني منه إجلالاً له،ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة.
ثم ولينا أشياء ما أدرى ماحالي فيها، فإذا أنا مت، فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا على الترابشنًّا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور (الوقت الذي تذبح فيه ناقة)، ويقسملحمها؛ حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي) [مسلم].
وتوفي عمرو -رضيالله عنه- سنة (43 هـ)، وقد تجاوز عمره (90) عامًا، وقد روى عمرو عن النبي








(39)حديثًا.


(21)خالد بن الوليد



سيف الله المسلول

خالد بن الوليد

إنه خالد بن الوليد -رضي الله عنه-، القائدالعبقري الذي لا تزال خططه الحربية في معاركه مثار إعجاب الشرق والغرب، وكان خالدقبل أن يسلم يحارب الإسلام والمسلمين، وقاد جيش المشركين يوم أحد، واستطاع أنيحوِّل نصر المسلمين إلى هزيمة بعد أن هاجمهم من الخلف، عندما تخلى الرماة عنمواقعهم، وظل خالد على شركه حتى كان عام الحديبية، فأرسل إليه أخوه الوليد بنالوليد كتابًا، جاء فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فأني لم أر أعجب من ذهابرأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك!! ومثل الإسلام لا يجهله أحد، وقد سألني رسول الله ( عنك، فقال: (أين خالد؟) فقلت: يأتي الله به، فقال رسول الله (: (مثله جهل الإسلام،ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين كان خيرًا له). فاستدرك يا أخي ما فاتك، فقدفاتك مواطن صالحة.

فلما قرأ خالد كتاب أخيه، انشرح صدره للإسلام، فخرج فلقىعثمان بن طلحة، فحدثه أنه يريد الذهاب إلى المدينة، فشجعه عثمان على ذلك، وخرجامعًا، فقابلهما عمرو بن العاص، وعرفا منه أنه يريد الإسلام أيضًا،فتصاحبوا
جميعًا إلى المدينة؛ وكان ذلك في نهاية السنة السابعة من الهجرة، فلماقدموا على النبي ( رحب بهم، فأعلنوا إسلامهم، فقال صلى الله عليه
وسلم لخالد: (قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير) [ابن سعد]. فقال خالد: استغفر ليكل ما أوضعت فيه من صد عن سبيل الله.
فقال (: (إن الإسلام يجب (يزيل) ما كانقبله، اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع منه من صد عن سبيلك) [ابن سعد]. ومنذذلك اليوم وخالد يدافع عن راية الله، ويجاهد في كل مكان لإعلاء كلمة الحق، وخرج معجيش المسلمين المتجه إلى مؤتة تحت إمارة زيد بن حارثة، ويوصى الرسول (: (إن قتل زيدفجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة) [البخاري]، فلما قتل الثلاثة وأصبح الجيشبلا أمير، جعل المسلمون خالدًا أميرهم، واستطاع خالد أن يسحب جيش المسلمين وينجوبه.
وفي فتح مكة، أرسله رسول الله ( إلى بيت العزى، وكان بيتًا عظيمًا لقريشولقبائل أخرى، فهدمه خالد وهو يقول:
يَا عِزّ كُفْرَانَكَ لا سُبْحَانَكْ أنيرَأيْتُ اللَّهَ قَــدْ أَهَانَكْ
ويوم حنين، كان خالد في مقدمة جيش المسلمين،وجرح في هذه المعركة، فأتاه رسول الله ( ليطمئن عليه ويعوده، ويقـال: إنـه نـفـث فيجرحه فشفي بإذن الله. واستمر خالد في جهاده وقيادته لجيش المسلمين بعد وفاة الرسول (، فحارب المرتدين ومانعي الزكاة، ومدعي النبوة، ورفع راية الإسلام ليفتح بها بلادالعراق وبلاد الشام، فقد كان الجهاد هو كل حياته، وكان يقول: ما من ليلة يهدى إليَّفيها عروس أنا لها محب أحب إلي من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد في سرية أصبح فيهاالعدو. [أبو يعلي].
وكان خالد مخلصا في جهاده، ففي حرب الروم قام في جندهخطيبًا، وقال بعد أن حمد الله: إن هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولاالبغي، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم. وكان خالد بن الوليد دائمًا يطمع فيإسلام من يحاربه، فكان يدعوهم إلى الإسلام أولاً، فهو يحب للناس الإيمان ولا يرضيلهم دخول النار، فإن أبوا فالجزية ثم الحرب.
وكان اسم خالد يسبقه في كل مواجهةله مع أعداء الإسلام، وكان الجميع يتعجبون من عبقريته، وقوة بأسه في الحرب، ففيمعركة اليرموك خرج (جرجة) أحد قادة الروم من صفوف جنده، وطلب من خالد الحديث معه،فخرج إليه خالد، فقال جرجة: أخبرني فاصدقني ولا تكذبني، فإن الحر لا يكذب، ولاتخادعني فإن الكريم لا يخادع، هل أنزل الله على نبيكم سيفًا من السماء فأعطاه لكفلا تسله على أحد إلا هزمتهم؟ فقال خالد: لا.
فسأله جرجة: فبم سميت سيف الله؟فردَّ عليه خالد قائلاً: إن الله بعث فينا نبيه محمدًا ( فدعانا للإسلام فرفضنادعوته، وعذبناه، وحاربناه، ثم هدانا الله فأسلمنا، فقال الرسول (: (أنت سيف من سيوفالله، سلَّه الله على المشركين)، ودعا لي بالنصر، فسميت سيف الله بذلك، فأنا من أشدالمسلمين على المشركين. ثم سأله جرجة عن دعوته، وعن فضل من يدخل في الإسلام، وبعدحوار طويل بينهما شرح الله صدر جرجة للإسلام، فأسلم وتوضَّأ وصلى ركعتين مع خالد بنالوليد، ثم حارب مع صفوف الإيمان، فأنعم الله عليه بالشهادة في سبيله عزوجل.
وعندما تولى الفاروق عمر الخلافة، عزل خالد من القيادة، وولَّى قيادةالجيش
أبا عبيدة بن الجراح، فحارب خالد تحت راية الحق جنديًّا مخلصًا مطيعًالقائده لا يدخر جهدًا ولا رأيًّا في صالح الدين ونصرة الحق، فكان نِعمَالقائد
ونعم الجندي.
وظل خالد يجاهد في سبيل ربه حتى مرض مرض الموت، فكانيبكي على فراش الموت، ويقول: لقد حضرت كذا وكذا زحفًا، وما في جسدي شبر إلا وفيهضربة سيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموتالبعير، فلا نامت أعين الجبناء. وتوفي رضي الله عنه بحمص من أرض الشام سنة (21 هـ)









(22)خباب بن أرت

أول من أظهر إسلامه

خباب بن الأرت

إنه الصحابي خباب بن الأرت -رضي الله عنه-،وكان خباب قد ولد في قبيلة تميم، وأُسر في مكة، فاشترته أم أنمار بنت سباع، وكانصانِعًا للسيوف، يبيعها ويأكل من عمل يده، فلما سمع عن الإسلام أسرع إلى النبي ( ليسمع منه عن هذا الدين الجديد، فشرح الله صدره، ثم أعلن إسلامه ليصبح من أوائلالمسلمين.

وتعرض خباب لشتى ألوان العذاب، لكنه تحمل وصبر في سبيل الله، فقدكانوا يضعون الحديد المحمي على جسده فما يطفئ النار إلا الدهن الموجود في ظهره، وقدسأله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يومًا عما لقى من المشركين، فقال خباب: يا أميرالمؤمنين، انظر إلى ظهري، فنظر عمر، فقال: ما رأيت كاليوم، قال خباب: لقد أوقدت لينار، وسحبت عليها فما أطفأها إلا ودك ظهري (أي دهن الظهر).
وذات يوم كثر التعذيبعلى خباب وإخوانه المسلمين المستضعفين، فذهب مع بعض أصحابه إلى رسول الله (، وكانمتكئًا في ظل الكعبة، وقالوا: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقاللهم رسول الله (: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاءبالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فمايصده ذلك عن دينه، والله ليتمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموتلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) [البخاري]. فزاد كلام النبي ( خبابًا وأصحابه إيمانًا بنصر الله، وإصرارًا على دعوتهم، فصبروا واحتسبوا ما يحدثلهم عند
الله -عز وجل-.
وكانت أم أنمار تأخذ الحديد الملتهب ثم تضعه فوق رأسخباب الذي كان يتلوى من شدة الألم، ولكن الله أخذ بحق خباب من هذه المرأة المشركةحيث أصيبت بسعار جعلها تعوي مثل الكلاب، ولا علاج لها إلا أن تكوى رأسها بالنار،فكان الجزاء من جنس العمل.
وأحب خباب إسلامه حبًّا شديدًا، جعله يضحي من أجلهبأغلى ما يملك من نفس ومال، فقد ذهب إلى العاص بن وائل أحد المشركين الكافرين ليطلبمنه ثمن السيوف التي صنعها له قبل ذلك، فيقول له العاص: لا أعطيك شيئًا حتى تكفربدين محمد، فرد عليه خباب: لا، والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، فقال لهالعاص مستهزءًا وساخرًا: فأني إذا مت ثم بعثت، جئتني يوم القيامة، ولي هناك مالوولد فأعطيك؟! فأخبر خباب النبي ( بذلك، فأنزل الله قرآنا كريمًا يذم فيه هذاالمشرك، قال تعالى: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لآوتين مالاً} [مريم: 77]_ [ابنسعد والبخاري].
وأحب خباب العلم، وحرص على سماع القرآن ونشره بين إخوانهالمسلمين، ففي أيام الدعوة الأولى كان خباب يدرس القرآن مع سعيد بن زيد وزوجتهفاطمة بنت الخطاب، عندما دخل عليهم عمر بن الخطاب.
وجاءت الهجرة، فأسرع خبابملبيًّا أمر النبي (، فهاجر إلى المدينة، وهناك آخى الرسول ( بينه وبين تميممولى
خراس بن الصمة -رضي الله عنهما-، وشارك خباب في جميع غزوات الرسول (، وأظهرفيها شجاعة وفروسية، وظلَّ محبًّا للجهاد في سبيل الله، وشارك خباب في الفتوحاتأيام أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب
-رضي الله عنهما-.
ثم نزل خباب في الكوفةوبنى لنفسه بيتا متواضعًا عاش فيه حياة زاهدة، وبالرغم من هذه الحياة البسيطة، كانيعتقد أنه أخذ من الدنيا الكثير، فكان يبكى على بسط الدنيا له، وكان يضع ماله كلهفي مكان معروف في داره لكي يأخذ منه كل محتاج من أصحابه الذين يدخلون عليه، وفيمرضه الذي مات فيه دخل عليه بعض الصحابة، فقالوا له: أبشر يا أبا عبد الله، ترد علىمحمد ( الحوض، فأشار خباب إلى أعلى بيته وأسفله قائلاً: كيف بهذا؟! وقد قال رسولالله (: (أنه يكفي أحدكم مثل زاد الراكب)
[ابن ماجه]، ولقد رأيتني مع رسول الله ( ما أملك درهمًا، وإن في جانب بيتي (الآن) لأربعين ألف درهم.
وطلب خباب كفنه،فلما رآه بكى، وقال: لكن حمزة -رضي الله عنه- لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء إذاجعلت على رأسه قلصت (انضمت) عن قدميه، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه، حتى مدتعلى رأسه، وجعل على قدميه الإذخر.
ودخل عليه بعض أصحابه فقال لهم: إن في هذاالتابوت (الصندوق) ثمانين ألف درهم، والله ما شددت لها من خيط ولا منعتها من سائل،ثم بكى، فقالوا: ما يبكيك؟ قال: أبكى أن أصحابي مضوا ولم تنقصهم الدنيا شيئًا، وإنابقينا بعدهم حتى لم نجد لها موضعًا إلا التراب. وفي عام (37 هـ) صعدت روح خباب إلىبارئها ودفن بالكوفة، ولما عاد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- من معركة صفين، مربقبر خباب؛ فقال: رحم الله خبابًا، أسلم راغبًا، وهاجر طائعًا، وعاش مجاهدًا،وابتلى في جسمه أحوالاً.











(23)عبدالله بن عمر



راهب الليل

عبد الله بن عمر بن الخطاب

إنه الصحابي الكريم عبد الله بن عمر بنالخطاب -رضي الله عنه-، ولد بعد البعثة النبوية الشريفة بثلاث سنوات، وعندما هاجركان عمره إحدى عشرة سنة، وفي غزوة أحد أراد أن يخرج للجهاد، فعرض نفسه على النبي ( فردَّه لصغر سنه، وفي غزوة الخندق ظل يلح على النبي ( حتى وافق على خروجه، وكانعمره خمس عشرة سنة، واستمر بعد ذلك يجاهد في جميع الغزوات والمواقع.

وكان -رضيالله عنه- يتبع آثار النبي ( ويقتدي به في جميع أموره؛ لدرجة أنه كان يتحرى أن يصليفي كل مكان صلى فيه النبي (، ويسير في كل طريق سار فيه، رجاء أن توافق صلاته أومشيته مكانًا صلى فيه الرسول ( أو سار فيه، وعلم أن النبي ( نزل تحت شجرة يستظلبها، فكان عبدالله ينزل عندها، ويتعهدها بالسقي فيصب في جذرها حتى لا تيبس. [ابنسعد].
يقول عبد الله: كان الرجل في حياة النبي ( إذا رأى رؤيا قصها على النبي (،فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي (، وكنت غلامًا شابًا، وكنت أنام في المسجد علىعهد النبي (، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطويةكطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناس قد عرفتهم فجعلت أقول: أعوذ بالله منالنار، فلقينا ملك آخر، فقال لي: لم ترع (لا تخف)، فقصصتها على حفصة (أخته وزوجالنبي ()، فقصتها حفصة على النبي (، فقال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي منالليل) قال سالم: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً [متفق عليه]. وكان إذافاتته العشاء في جماعة، أحيي بقية ليلته. [أبو نعيم]، وكان لعبد الله مهراس (حجرمجوف) يوضع فيه الماء للوضوء فيصلي ما قدر له، ثم يصير إلى الفراش فيغض إغفاءالطائر (ينام نومًا قصيرًا)، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي، يفعل ذلك في الليل أربع مرات أوخمسًا. [ابن المبارك].
وكان عبد الله من أهل التقوى والورع والعلم، وكان مع علمهالشديد يتحرى في فتواه، ويخاف أن يفتي بدون علم، وقد جاءه يومًا رجل يستفتيه فيشيء، فأجابه معتذرًا: لا علم لي بما تسأل عنه، ثم فرح وقال: سئل ابن عمر عما لايعلم فقال: لا أعلم. وقال عنه ميمون بن مهران: ما رأيت أتقى من ابن عمر.
وكانكارهًا لمناصب الدنيا، خائفًا من تحمل أعبائها، وقد أرسل إليه
عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وعرض عليه منصب القضاء فرفض ابن عمر، وكان عبد الله يحب الحق ويكرهالنفاق، وقد جاء إليه عروة بن الزبير بن العوام وقال له: يا أبا عبد الرحمن، إنانجلس إلى أئمتنا هؤلاء فيتكلمون بالكلام، ونحن نعلم أن الحق غيره فنصدقهم، ويقضونبالجور (أي يحكمون بين الناس بغير الحق) فنقويهم ونحسنه لهم، فكيف ترى في ذلك؟! فقال ابن عمر لعروة: يابن أخي، كنا مع رسول الله ( نعدَّ هذا النفاق، فلا أدرى كيفهو
عندكم؟!
وذات يوم رأى رجلاً يمدح رجلاً آخر، فأخذ ابن عمر ترابًا ورمى بهفي وجهه وقال له: إن رسول الله ( قال: (إذا رأيتم المدَّاحين فاحثوا (ألقوا) فيوجوههم التراب) [مسلم]. وكان رقيق القلب، حسن الطباع، لا يسمع ذكر النبي ( إلا بكى،وما كان يمر بمسجده وقبره ( إلا بكى حبًّا وشوقًا إليه.
وكان حسن الخلق لم يلعنخادمه قط، ولم يسَبَّ أحدًا طوال حياته، وقد ارتكب خادمه خطأ ذات مرة فهمَّ أنيشتمه، فلم يطاوعه لسانه، وندم على ما همَّ به فأعتقه لوجه الله تعالى، وكان قارئًاللقرآن، خاشعًا لله، وكلما قرأ أو سمع آية فيها ذكر القيامة بكى حتى تبتل لحيته منكثرة الدموع، فعن نافع قال: كان ابن عمر إذا قرأ: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشعقلوبهم لذكر الله} [الحديد: 16] بكى حتى يغلبه البكاء. [أبو نعيم].
وكان يعظمصحابة النبي ( ويعرف قدرهم، وكان يخرج إلى السوق من أجل السلام على المسلمين فقط،وكان كثير التصدق وجوادًا كريمًا يكثر الإنفاق في سبيل الله، وكان إذا أحب شيئًا أوأعجب به أنفقه في سبيل
الله، وكان من أشد الناس زهدًا في نعيم الدنيا، ومن أحسنالناس حبا لفعل
الخير، فيحكى أنه كان مريضًا فقال لأهله: أني أشتهي أن آكل سمكًافأخذ الناس يبحثون له عن سمك فلم يجدوا إلا سمكة واحدة بعد تعب شديد، فأخذتها زوجتهصفية بنت أبي عبيدة فأعدتها، ثم وضعتها أمامه فإذا بمسكين يطرق الباب، فقال له ابنعمر: خذ هذه السمكة، فقال أهله: سبحان الله! قد أتْعَبتنا حتى حصلنا عليها، وتريدأن تعطيها للمسكين؟! كلْ أنت السمكة وسنعطي له درهما فهو أنفع له يشتري به مايريد.
فقال ابن عمر: لا أريد أن أحقق رغبتي وأقضي شهوتي، إنني أحببت هذه السمكةفأنا أعطيها المسكين إنفاقًا لِمَا أُحِبُّ في سبيل الله. [ابن سعد وأبو نعيموالهيثمي].
وبينما كان عبد الله -رضي الله عنه- يؤدي فريضة الحج أصابه سن رمحكان مع أحد الرجال في منى فجرحه، فأدى هذا الجرح إلى وفاته، ودفن بمكة في سنة (73هـ)، وقد روى كثيرًا من أحاديث الرسول (، حيث روى ألفين وست مئة وثلاثين حديثًا.











(24)عبدالله بن عباس


حبر الأمة

عبد الله بن عباس

إنه الصحابي الجليل عبد الله بن عباس -رضي اللهعنه-، ابن عم النبي (، ولد -رضي الله عنه- قبل الهجرة بثلاث سنين، وبايع رسول الله ( وهو صغير لم يبلغ الحلم، وهاجر إلى المدينة مع أبويه قبل فتح مكة.

وكان ابنعباس -رضي الله عنه- محبًا للعلم منذ صغره، يقبل عليه، ويهتم به حفظًا وفهمًاودراسة، وما إن اشتد عوده حتى أصبح أعلم الناس بتفسير القرآن وأحكام السنة المطهرة،يأتي إليه الناس من كل مكان يتعلمون منه أحكام الدين على يديه. دعا له رسول الله ( قائلاً: (اللهم فقهه في الدين) [البخاري]، وكان يسمى بـترجمان القرآن.
ولقِّببالحَبْر لكثرة علمه بكتاب الله وسنة رسوله (، ويروى أنه كان معتكفًا في مسجدالرسول (، فأتاه رجل على وجهه علامات الحزن والأسى، فسأله عن سبب حزنه؛ فقال له: ياابن عم رسول الله، لفلان علي حق ولاء، وحرمة صاحب هذا القبر (أي قبر الرسول () ماأقدر عليه؛ فقال له: أفلا أكلمه فيك؟ فقال الرجل: إن أحببت؛ فقام ابن عباس، فلبسنعله، ثم خرج من المسجد، فقال له الرجل: أنسيت ما كنت فيه؟‍! (أي أنك معتكف ولا يصحلك الخروج من المسجد).
فرد عليه قائلاً: لا، ولكن سمعت صاحب هذا القبر ( والعهدبه قريب -فدمعت عيناه- وهو يقول: (من مشى في حاجة أخيه، وبلغ فيها كان خيرًا له مناعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يومًا ابتغاء وجه الله تعالى، جعل الله بينه وبين النارثلاث خنادق أبعد مما بين الخافقين (المشرق والمغرب))
[الطبراني والبيهقيوالحاكم].
وكان يحب إخوانه المسلمين، ويسعى في قضاء حوائجهم، وكان يقول: لأنأعول أهل بيت من المسلمين شهرًا أو جمعة أو ما شاء الله أحب إلي من حجة بعد حجة،ولهدية أهديها إلى أخ لي في الله أحب إلي من دينار أنفقه في سبيل الله. وكان عمر -رضي الله عنه- يحب عبد الله بن عباس ويقربه من مجلسه ويستشيره في جميع أموره،ويأخذ برأيه رغم صغر سنه، فعاب ناس من المهاجرين ذلك على عمر، فقال لهم عمر: أماأني سأريكم اليوم منه ما تعرفون فضله، فسألهم عمر عن تفسير سورة {إذا جاء نصر اللهوالفتح}، فقال بعضهم: أمر الله نبيَّه إذا رأى الناس يدخلون في دين الله أفواجًا أنيحمده ويستغفره، فقال عمر: يا ابن عباس، تكلم. فقال عبدالله: أعلم الله رسوله ( متىيموت، أي: فهي علامة موتك فاستعد، فسبح بحمد ربك واستغفره. [البخاري وأحمد والترمذيوالطبراني وأبو نعيم].
وكان سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- يقول عن ابن عباس: ما رأيت أحدًا أحضر فهمًا، ولا ألب لبًّا (عقلاً)، ولا أكثر علمًا، ولا أوسع حلمًامن ابن عباس، لقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات فيقول: قد جاءت معضلة، ثم لا يجاوز قولهوإن حوله لأهل بدر. [ابن سعد]. وكانت السيدة عائشة -رضي الله عنها- تقول: أعلم مَنبقي بالحجِّ ابن عباس.
وكان ابن عباس يقيم الليل، ويقرأ القرآن، ويكثر من البكاءمن خشية الله، وكان متواضعًا يعرف لأصحاب النبي ( قدرهم، ويعظمهم ويحترمهم، فذاتيوم أراد زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أن يركب ناقته فأسرع ابن عباس إليه لينيخ لهالناقة، فقال له زيد: تنيخ لي الناقة يا ابن عم رسول الله؟! فرد عليه ابن عباسقائلاً: هكذا أمرنا أن نأخذ بركاب كبرائنا.
وكان ابن عباس كريمًا جوادًا، وذاتمرة نزل أبو أيوب الأنصاري البصرة حينما كان ابن عباس أميرًا عليها، فأخذه ابن عباسإلى داره وقال له: لأصنعن بك كما صنعت مع رسول الله (، فاستضافه ابن عباس خيرضيافة. وحضر ابن عباس معركة صفين، وكان في جيش الإمام عليَّ، وأقبل ابن عباس علىالعلم والعبادة حتى أتاه الموت سنة (67 هـ)، حينما خرج من المدينة قاصدًا الطائف،وكان عمره آنذاك (70) سنة، وصلى عليه الإمام محمد بن الحنفية، ودفنه بالطائف وهويقول: اليوم مات رَبَّاني هذه الأمة.
وكان ابن عباس -رضي الله عنه- من أكثرالصحابة رواية عن النبي ( فبلغ مسنده (1660) حديثًا، كما كان من أكثر الصحابةفقهًا، وله اجتهادات فقهية تميزه عن غيره من الصحابة.










(25)عبدالله بن الزبير


الشهيد العائذ بالبيت

عبد الله بن الزبير

إنه أبو بكر عبدالله بن الزبير بن العوام -رضي الله عنه-، ابن ذات النطاقين

أسماء بنت أبي بكر،وقد وضعته أمه حين وصلت قُباء، فكان أول مولود للمهاجرين بعد الهجرة، ثم أتت به أمهالرسول ( فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها ثم وضعها في فمه، فكان أول شيء دخلبطنه ريق النبي (، ثم دعا له بالبركة، وسماه عبد الله على اسم جده
أبي بكر وكناهبكنيته. [مسلم]، وكان ميلاده حدثًا عظيمًا أبطل مزاعم اليهود الذين زعموا أنهمسحروا المسلمين فلن يولد لهم بالمدينة ولد، وكبَّر الصحابة حين ولد تكبيرة اهتزتالمدينة منها.
ونشأ عبد الله في بيت النبوة حيث تربى في حجر خالته عائشة أمالمؤمنين -رضي الله عنها-، وظهرت عليه علامات الشجاعة منذ طفولته. وذات يوم تحدثبعض الصحابة مع النبي ( في أمر أبناء المهاجرين والأنصار الذين ولدوا في الإسلامحتى ترعرعوا من أمثال عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن جعفر، وعمر بن أبي سلمة،وقالوا له: لو بايعتهم فتصيبهم بركتك، ويكون لهم ذكر؟، وجاءوا بهم إلى النبي ( فخافوا ووجلوا من النبي ( إلا عبد الله بن الزبير الذي اقتحم أولهم، فرآه النبي ( فتبسَّم، وقال: (إنه ابن أبيه). وبايعه النبي ( وهو ابن سبع سنين. [مسلم].
وكانعبد الله فارسًا شجاعًا يحب الجهاد، ويذهب مع أبيه ليتدرب على ركوب الخيلوالمبارزة، وشهد معه معارك عديدة منها اليرموك، واشترك في فتح إفريقية، وهو الذيحمل البشرى إلى الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بفتحها. وكان -رضي الله عنه- عابدًا لله، قارئًا لكتاب الله، قوامًا لليل، صوامًا للنهار، قال عنه عمرو بندينار: ما رأيت مصليًا أحسن صلاة من ابن الزبير. وقال ثابت البناني: كنت أمرُّ بابنالزبير وهو خلف المقام يصلي، كأنه خشبة منصوبة لا تتحرك. وكان أحد الذين أمرهمعثمان -رضي الله عنه- بنسخ المصاحف.
قال عمر بن عبد العزيز يومًا لابن أبيمليكة: صف لنا عبد الله بن الزبير فقال: والله ما رأيت نفسًا رُكبت بين جنبين مثلنفسه، ولقد كان يدخل في الصلاة، فيخرج من كل شيء إليها، وكان يركع أو يسجد فتقفالعصافير فوق ظهره وكاهله لا تحسبه من طول ركوعه وسجوده إلا جدارًا.
واشترك -رضيالله عنه- مع أبيه في موقعة الجمل، وبعد أن أصبح الحكم في
يد بني أمية ظل عبدالله على خلاف معهم، فاعترض على ولاية يزيد بن معاوية. ولما توفي يزيد بايعت جميعالولايات الإسلامية عبدالله بن الزبير أميرًا للمؤمنين، واتخذ عبدالله من مكة عاصمةلدولته، وبسط يده على الحجاز واليمن والبصرة والكوفة والشام كلها ما عدا دمشق، وظلعبدالله باسطًا يده على هذه البلاد حتى استطاع مروان بن الحكم أن ينتزع منه هذهالولايات عدا الحجاز التي ظلت تحت سيطرة عبدالله.
ورغم ذلك لم يهدأ الأمويون،فأخذوا يشنون حروبًا متصلة ضد ابن الزبير، انهزموا في أكثرها حتى جاء عهد عبد الملكبن مروان الذي أرسل
الحجاج بن يوسف الثقفي على رأس جيش كبير لغزو مكة عاصمة ابنالزبير، فحاصرها ستة أشهر مانعًا عن الناس الماء والطعام كي يحملهم على ترك عبدالله بن الزبير، وتحت وطأة الجوع استسلم الكثير من جنوده، ووجد عبد الله نفسهوحيدًا، فقرر أن يتحمل مسئوليته حتى النهاية، وراح يقاتل جيش الحجاج في شجاعةفائقة، وكان عمره يومئذ سبعين سنة.
وأثناء ذلك ذهب عبد الله إلى أمه أسماء بنتأبي بكر الصديق -رضي الله عنها-، وأخذ يشرح لها موقفه، فقالت له: يا بني، إنك أعلمبنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق، وتدعو إلى حق، فاصبر عليه حتى تموت في سبيله، ولاتملك من رقبتك غلمان بني أمية، وإن كنت تعلم أنك أردت الدنيا فلبئس العبد أنت أهلكتنفسك، وأهلكت من قتل معك. فقال عبد الله: والله يا أماه، ما أردت الدنيا، ولا ركنتإليها، وما جُرْتُ في حكم الله أبدًا، ولا ظلمت، ولا غدرت.
فقالت أمه أسماء: أنيلأرجو الله أن يكون عزائي فيك حسنًا، إن سبقتني إلى الله
أو سبقتك، اللهم ارحمطول قيامه في الليل، وظمأه في الهواجر (الأيام الشديدة الحر)، وبرَّه بأبيه وبي،اللهم أني أسلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرينالشاكرين.






وانطلق عبد الله يقاتل الحجاج مع مَنْ تبقَّى معه من المسلمين حتىاستشهد ومعه كثير من المسلمين وكان ذلك عام (37هـ). ولما قتل عبد الله كبر أصحابالحجاج فسمعهم ابن عمر، فقال: أما والله للذين كبروا عند مولده خير من هؤلاء الذينكبروا عند قتله. ثم صلبه الحجاج على إحدى الطرق، فمرَّ به ابن عمر وهو مصلوب فقال: السلام عليك يا أبا خبيب، قالها ثلاث مرات، أما والله، لقد كنت أنهاك عن هذا (يقصدقتال بني أمية) ثم أخذ يثني عليه ويذكر صيامه وقيامه ومكانته. وجاءت أمه أسماء بنتأبي بكر وكانت عجوزًا مكفوفة البصر، فقالت للحجاج: أما آن لهذا الراكب أن ينـزل (تقصد عبد الله المصلوب)؟ فأنزله، فغسله المسلمون ودفنوه -رضي الله عنه-.



(26)سعد بن معاذ












شهيد السماء



سعد بن معاذ

إنه الصحابي الجليل سعد بن معاذ -رضي الله عنه-، سيدالأوس، أسلم بعد بيعة العقبة الأولى، وحضر بيعة العقبة الثانية.
ولإسلام سعد قصةطريفة، فقد بعث النبي ( مصعب بن عمير -رضي الله عنه- ليدعو أهل المدينة إلىالإسلام، ويُعلِّم من أسلم منهم القرآن وأحكام الدين، وجلس مصعب ومعه الصحابي أسعدبن زرارة في حديقة
بالمدينة، وحضر معهما رجال ممن أسلموا، فلما سمع بذلك سعد بنمعاذ وأسيد بن حضير، وكانا سيديّ قومهما، ولم يكونا أسلما بعد، قال سعد لأسيد بنحضير: انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا ديارنا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما،وانههما عن أن يأتيا ديارنا، فأخذ أسيد حربته ثم أقبل عليهما، فلما رآه أسعد بنزراة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه.
ووقف أسيد يسبهما، فقالله مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره، فجلسأسيد، واستمع إلى مصعب، واقتنع بإسلامه، فأسلم، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إناتبعكما لم يتخلف عنه أحد
من قومه، وسأرسله إليكما الآن سعد بن معاذ، ثم أخذأسيد حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس، فقال له: إن بني حارثة قد خرجوا إلىأسعد بن زرارة ليقتلوه، وكان أسعد ابن خالة سعد، فقام سعد غاضبًا فأسرع وأخذ الحربةفي يده. فلما رآهما جالسين مطمئنين، عرف أن أسيدًا إنما قال له ذلك ليأتي به إلىهذا المكان، فأخذ يشتمهما، فقال أسعد لمصعب: أي مصعب، جاءك والله سيدٌ من ورائهقومه إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم أحد.
فقال مصعب لسعد: أو تقعد فتسمع؟ فإن رضيتأمرًا، ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته، عزلنا عنك ما تكره. قال سعد: أنصفت، ثم وضعالحربة، وجلس. فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن كما فعل مع أسيد، فلمح مصعبوأسعد الإسلام في وجه سعد بن معاذ قبل أن يتكلم؛ فقد أشرق وجهه وتهلل، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قال: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهدشهادة الحق، ثم تصلى ركعتين.
ففعل سعد ذلك، ثم أخذ حربته ورجع إلى قومه، فلمارآه قومه قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به، فقال لهمسعد: يا بني
عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيًّا. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام، حتى تؤمنوا بالله وبرسوله، فما أمسى فيدار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا ودخل في الإسلام. وبعد انتشار الإسلام فيربوع المدينة، أذن الله سبحانه لنبيه ( بالهجرة إلى المدينة، فكان سعد خير معينلإخوانه المهاجرين إلى المدينة.
وجاءت السنة الثانية من الهجرة، والتي شهدتأحداث غزوة بدر، وطلب النبي ( المشورة قبل الحرب، فقام أبو بكر وتحدث ثم قام، فتحدثعمر، ثم قام المقداد بن عمرو، وقالوا وأحسنوا الكلام، ولكنهم من المهاجرين، فقالالرسول (: (أشيروا علي أيها الناس)، فقال سعد بن معاذ زعيم الأنصار: والله لكأنكتريدنا يا رسول الله؟ قال: (: أجل)، فقال سعد: لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ماجئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فامض يا رسول الله لما أردت،فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما تخلفمنا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصُبُر في الحرب، صُدُق فياللقاء، لعل الله يريك منا ما تقرَّ به عينك، فسر بنا على بركة الله.
فسُرَّرسول الله ( عندما سمع كلام سعد، ثم قال: (سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدنيإحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم) [ابن هشام].
وقبل أنتبدأ المعركة قال سعد بن معاذ: يا نبي الله، ألا نبني لك عريشًا تكون فيه، ونعدعندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا؛ كان ذلك ما أحببنا،وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا، فأثنى عليه رسول الله ( خيرًا، ودعا له بخير، ثم بني لرسول الله ( عريشًا، فجلس فيه يدعو الله أن ينصرالإسلام. [ابن هشام].
وأبلى المسلمون في غزوة بدر بلاء حسنًا، وكان لهمالنصر.
ويروى أن سعد بن معاذ كان يقول: ثلاث أنا فيهن رجل كما ينبغي، وما سوىذلك فأنا رجل من الناس، ما سمعت من رسول الله ( حديثًا قط إلا علمت أنه حق من اللهعز وجل، ولا كنت في صلاة قط فشغلت نفسي بغيرها حتى أقضيها، ولا كنت في جنازة قط،فحدثت نفسي بغير ما تقول، ويقال لها، حتى أنصرف عنها. وكان سعيد بن المسيب يقول: هذه الخصال ما كنت أحسبها إلا في نبي.
وتأتى غزوة أحد، ويظهر سعد فيها حماسةشديدة وشجاعة عظيمة، وظل يدافع عن النبي ( حتى عاد المشركون إلى مكة.
وفي غزوةالخندق، تحالف المشركون وتجمعوا من كل مكان يحاصرون المدينة، واستغلَّ بنو غطفانالموقف، فبعثوا إلى رسول الله ( كتابًا يعرضون فيه أن يتركوا القتال في مقابل أنيحصلوا على ثلث ثمار المدينة، فاستشار الرسول ( صحابته في هذا.
فقال سعد: يارسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك، وكانوا لا يطمعون أن يأكلوا مناثمرة واحدة، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، نعطيهم أموالنا! والله ما لنا بهذه منحاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فرضي الرسول ( والصحابة بذلك.
وأصيب سعد بن معاذ في غزوة الخندق بسهم حين رماه ابن العرقةوقال: خذها وأنا ابن العرقة، فقال سعد: عرق الله وجهك في النار. ثم دعا سعد ربهفقال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا، فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلى منأن أجاهدهم فيك من قوم آذوا نبيك، وكذبوه وأخرجوه. اللهم إن كنت وضعت الحرب بينناوبينهم، فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من قريظة. [أحمد وابنهشام].
وانتهت غزوة الخندق بهزيمة المشركين، وبعد الغزوة ذهب الرسول ( هووصحابته لحصار بني قريظة الذين تآمروا مع المشركين على المسلمين، وخانوا عهد الرسول (، وغدروا بالمسلمين، وجعل الرسول ( سعد بن معاذ هو الذي يحكم فيهم، فأقبل سعديحملونه وهو مصاب، وقال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. ثم التفت إلىالنبي ( وقال: إني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى ذراريهمونساؤهم، فقال الرسول (: (لقد حكمت فيهم بحكم الله) [ابن عبدالبر].
ثم يموت سعدبن معاذ -رضي الله عنه-، ويلقى ربه شهيدًا من أثر السهم، وأخبر الرسول ( صحابته أنعرش الرحمن قد اهتز لموت سعد، وجاء جبريل إلى رسول الله ( وقال له: من هذا الميتالذي فتحت له أبواب السماء واستبشر به أهلها؟
وأسرع النبي ( وأصحابه إلى بيت سعدليغسلوه ويكفنوه، فلما فرغوا من تجهيزه والصلاة عليه، حمله الصحابة فوجدوه خفيفًاجدًّا، مع أنه كان ضخمًا طويلاً، ولما سئل الرسول ( عن ذلك قال: (إن الملائكة كانتتحمله) [ابن عبد البر]، وقال (: (شهده سبعون ألفًا من الملائكة) [ابن عبدالبر].
وجلس الرسول ( على قبره، فقال: (سبحان الله) مرتين، فسبح القوم ثم قال: (الله أكبر) فكبروا، وقال النبي (: (لو نجا أحد من ضغطة القبر، لنجا منها سعد بنمعاذ) [ابن عبد البر]. وكانت وفاته -رضي الله عنه- سنة (5هـ)، وهو ابن سبع وثلاثينسنة، ودفن بالبقيع.















(27)سعد بن عبادة








الكريم


سعد بن عبادة

إنه سعد بن عبادة -رضي الله عنه- زعيم الخزرج، وحاملراية الأنصار، أمه عمرة بنت مسعود، وكان يكنى أبا ثابت، وأبا قيس، وقد أسلم مبكرًا،وحضر بيعة العقبة الثانية مع سبعين رجلاً وامرأتين من الأنصار، وكان أحد النقباءالإثني عشر.
ورغم أن سعدًا كان سيد قومه، لم تمنعه تلك السيادة من أن ينال قسطًامن تعذيب قريش، وذلك أنه بعد أن تمت بيعة العقبة الثانية، وأخذ الأنصار يستعدونللسفر والرجوع إلى المدينة، علمت قريش بمبايعتهم للنبي (، واتفاقهم معه على الهجرةإلى المدينة ليناصروه ضد قوى قريش، فجن جنونهم، وطاردوا المسلمين، حتى أدركوا منهمسعد بن عبادة، فأخذه المشركون، وربطوا يديه إلى عنقه، وعادوا به إلى مكة حيث التفواحوله يضربونه، وينزلون به أشد العذاب.
يقول سعد: فوالله إني لفي أيديهم إذ طلععليَّ نفر من قريش فيهم رجل وضئ، أبيض، شعشاع من الرجال (يقصد سهيل بن عمرو)، فقلتفي نفسي: إن يك عند أحد من القوم خير، فعند هذا، فلما اقترب مني رفع يده فلكمني (ضربني) لكمة شديدة، فقلت في نفسي: لا والله، ما عندهم بعد هذا من خير، فو الله إنيلفي أيديهم يسحبونني إذ أوى (جاء) إلى رجل ممن كان معهم فقال: ويحك، أما بينك وبينأحد من قريش جوار؟ قلت: بلى، كنت أُجير لجبير بن مطعم تجارة، وأمنعهم ممن يريدظلمهم ببلادي، وكنت أجير للحارث بن حرب بن أمية، فقال الرجل: فاهتف باسم الرجلين،واذكر ما بينك وبينهما من جوار، ففعلت،
وخرج الرجل إليهما، فوجدهما في الكعبة،فأخبرهما أن رجلا من الخزرج
يضرب بالأبطح، وهو يهتف باسميهما أن بينه وبينهماجوارًا، فسألاه عن اسمي، فقال: سعد بن عبادة، فقالا: صدق والله، وجاءا فخلصاني منأيديهم.
[ابن سعد].
وعندما هاجر الرسول ( وأصحابه إلى المدينة استقبلهم سعدخير استقبال، وسخر ماله لخدمتهم، وعرف سعد بالجود والكرم، وبلغت شهرته في ذلكالآفاق، وكان دائمًا يسأل الله المزيد من رزقه وخيره، فيقول: اللهم هب لي مجدا، لامجد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال، اللهم إنه لا يصلحني القليل، ولا أصلُح عليه. [الحاكم].
وكان الرجل من الأنصار يستضيف واحدًا أو اثنين أو ثلاثة بينما هويستضيف ثمانين، وكان مناديه يصعد أعلى داره وينادي: من كان يريد شحمًا ولحمًافليأت. وقد دعا له النبي ( فقال: (اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة) [أحمد].
وكان سعد يجيد الرمي، وكانت له فدائية وشجاعة فائقة، قال عنها ابنعباس
-رضي الله عنهما-: كان لرسول الله ( في المواطن كلها رايتان؛ مع علي رايةالمهاجرين، ومع سعد بن عبادة راية الأنصار.
[عبد الرزاق وأحمد].
ووقف سعد بنعبادة موقفًا شجاعًا في بدر، حينما طلب النبي ( مشورة الأنصار، فقام سعد مشجعًا علىالقتال، فقال: يا رسول الله، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى بركالغماد لفعلنا.
[أحمد ومسلم].
وفي غزوة الخندق تجمعت القبائل الكافرة ضدالإسلام، وحاصرت المدينة، وعرضت قبيلة غطفان على النبي ( أن ينسحبوا من جيشالأحزاب، ولا يقفوا مع الكفار، في مقابل أن يأخذوا ثلث ثمار المدينة، فشاور الرسول ( كلا من سعد بن عبادة وسعد بن معاذ في هذا الأمر، فقال سعد بن عبادة: يا رسولالله، أمرًا تحبه فنصنعه، أم شيئًا أمرك الله
به، ولابد لنا من العمل به، أمشيئًا تصنعه لنا؟ فقال رسول الله (: (إنما هو شيء أصنعه لكم، لما رأيت العرب قدرمتكم عن قوس
واحدة).
فقال سعد بن معاذ: والله يا رسول الله، ما طمعوا بذلكمنا قط في الجاهلية، فكيف اليوم؟ وقد هدانا الله بك وأكرمنا وأعزنا، والله لانعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال رسول الله (: (فأنتوذاك)
[ابن هشام]. وبعد وفاة النبي ( اجتمع الأنصار في سقيفة
بني ساعدة،والتفوا حول سعد بن عبادة منادين بأن يكون خليفة رسول الله ( من الأنصار، ولكن عمربن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح رأيا أن أبا بكر أحق بالخلافة بعد رسول الله (،فوافق المسلمون على رأيهما، وبايع سعد أبا بكر -رضي الله عنه- بالخلافة، وتوفي سعدفي خلافة
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.














(28)سلمان الفارسي








ابن الإسلام


سلمان الفارسي

إنه الصحابي الجليل سلمان الفارسي، أو سلمانالخير، أو الباحث عن الحقيقة، وكان -رضي الله عنه- إذا سئل مَنْ أنت؟ قال: أنا ابنالإسلام، من بني آدم، وقد اشتهر بكثرة العبادة، وكثرة مجالسته للنبي (، فلم يفارقهإلا لحاجة، وكان النبي ( يحبه حبًّا شديدًا، وسماه أبو هريرة صاحب الكتابين (يعنيالإنجيل والفرقان)، وسمَّاه علي بن أبي طالب لقمان الحكيم، وقد آخى النبي ( بينهوبين أبي الدرداء.
يقول سلمان -رضي الله عنه- عن نفسه: (كنت رجلاً من أهل أصبهانمن قرية يقال لها جيّ، وكان أبي دُهْقانها (رئيسها)، وكنت من أحب عباد الله إليه،وقد اجتهدت في المجوسية حتى كنت قاطن النار (ملازمها) الذي يوقدها لا يتركها تخبوساعة.
وكان لأبي ضَيْعَة (أرض)، أرسلني إليها يومًا فخرجت فمررت بكنيسة للنصارى،فسمعتهم يصلُّون، فدخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فأعجبني ما رأيت من صلاتهم، وقلتلنفسي: هذا خير من ديننا الذي نحن عليه فما برحتهم (تركتهم) حتى غابت الشمس، ولاذهبت إلى ضيعة أبي، ولا رجعت إليه حتى بعث في أثري من يبحث عني، وسألت النصارى حينأعجبني أمرهم وصلاتهم عن أصل دينهم، فقالوا: في الشام، وقلت لأبي حين عُدت إليه: إني مررت على قوم يُصلّون في كنيسة لهم فأعجبتني صلاتهم، ورأيت أن دينهم خير منديننا، فحاورني وحاورته، ثم جعل في رجلي حديدًا وحبسني.
وأرسلت إلى النصارىأخبرهم أني دخلت في دينهم، وسألتهم إذا قدم عليهم ركب من الشام أن يخبروني قبلعودتهم إليها؛ لأرحل معهم، وقد فعلوا فحطمت الحديد، وخرجت، وانطلقت معهم إلى الشام،وهناك سألت عن عالمهم فقيل لي: هو الأسقف (رئيس من رؤساء النصارى) صاحب الكنيسة،فأتيته وأخبرته خبري، فأقمت معه أخدم وأصلي وأتعلم، وكان هذا الأسقف رجل سوء فيدينه، إذ كان يجمع الصدقات من الناس ليوزعها على الفقراء، ولكنه كان يكتنـزهالنفسه.
فلما مات جاءوا بآخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً على دينهم خيرًا منه،ولا أعظم رغبة في الآخرة وزهدًا في الدنيا، ودأبًا على العبادة، فأحببته حبًّا ماعلمت أنني أحببت أحدًا مثله قبله، فلما حضره قدره (الموت)، قلت له: إنه قد حضرك منأمر الله ما ترى، فبم تأمرني؟ وإلى مَنْ توصى بي؟ قال: أي بني، ما أعرف من الناسعلى مثل ما أنا عليه إلا رجلاً بالموصل.
فلما توفي أتيت صاحب الموصل، فأخبرتهالخبر، وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم، ثم حضرته الوفاة، فسألته فدلني على عابد فينصيبين، فأتيته وأخبرته خبري، ثم أقمت معه ما شاء الله أن أقيم، فلما حضرته الوفاةسألته، فأمرني أن ألحق برجل في عمورية من بلاد الروم، فرحلت إليه وأقمت معه،واصطنعت لمعاشي بقرات وغنيمات، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: إلى من توصي بي؟ فقال لي: يا بني ما أعرف أحدًا على مثل ما كنا عليه، آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك (أتىعليك) زمان نبي يبعث بدين إبراهيم حنيفًا، يهاجر إلى أرض ذات نخل بين حرتين، فإناستطعت أن تخلص (تذهب) إليه فافعل، وإن له آيات لا تخفى، فهو لا يأكل الصدقة، ويقبلالهدية، وإن بين كتفيه خاتم النبوة، إذا رأيته عرفته.
ومرَّ بي ركب ذات يوم،فسألتهم عن بلادهم فعلمت أنهم من جزيرة العرب، فقلت لهم: أعطيكم بقراتي هذه وغنميعلى أن تحملوني معكم إلى أرضكم؟ قالوا: نعم. واصطحبوني معهم حتى قدموا بي واديالقرى، وهناك ظلموني وباعوني إلى رجل من يهود، وأقمت عنده حتى قدم عليه يومًا رجلمن يهود بني قريظة، فابتاعني منه، ثم خرج بي حتى قدمت المدينة، فوالله ما هو إلا أنرأيتها حتى أيقنت أنها البلد التي وُصِفَتْ لي.
وأقمت معه أعمل له في نخله، وإنيلفي رأس نخلة يومًا، وصاحبي جالس تحتها، إذ أقبل رجل من بني عمه فقال يخاطبه: قاتلالله بني قيلة (الأوس والخزرج)، إنهم ليقاصفون (يجتمعون) على رجل بقباء قادم من مكةيزعمون أنه نبي، فوالله ما هو إلا أن قالها حتى أخذتني العُرَوَاءُ (ريح باردة)،فرجفت النخلة حتى كدت أسقط فوق صاحبي، ثم نزلت سريعًا أقول ما هذا الخبر؟ فرفع سيدييده ولكزني لكزة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا؟ أقبل على عملك، فأقبلت علىعملي.
ولما أمسيت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى جئت رسول الله ( بقُباء، فدخلتعليه ومعه نفر من أصحابه، فقلت له: إنكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي طعام نذرتهللصدقة، فلما ذُكر لي مكانكم رأيتكم أحق الناس به فجئتكم به، ثم وضعته، فقال الرسول ( لأصحابه: كلوا باسم الله، وأمسك هو فلم يبسط إليه يدًا، فقلت في نفسي: هذه واللهواحدة، إنه لا يأكل الصدقة.
ثم رجعت، وعدت إلى الرسول ( في الغداة أحمل طعامًا،وقلت له عليه السلام: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك بههدية، ووضعته بين يده، فقال لأصحابه: كلوا باسم الله، وأكل معهم، قلت لنفسي: هذهوالله الثانية، إنه يأكل الهدية، ثم رجعت فمكثت ما شاء الله، ثم أتيته فوجدته فيالبقيع قد تبع جنازة، وحوله أصحابه وعليه شملتان (الشملة: كساء من الصوف) مؤتزرًابواحدة، ومرتديًا الأخرى، فسلّمت عليه، ثم عدلت لأنظر أعلى ظهره، فعرف أني أريدذلك، فألقى بردته عن كاهله، فإذا العلامة بين كتفيه خاتم النبوة، كما وصفه ليصاحبي، فأكببت عليه أقبله وأبكي.
ثم دعاني عليه الصلاة والسلام فجلست بين يديه،وحدثته كما أحدثكم الآن، ثم أسلمت، وحال الرقُّ بيني وبين شهود (حضور) بدر وأحد،وفي ذات يوم قال الرسول (: (كاتب سيدك حتى يعتقك)، فكاتبته، وأمر الرسول ( الصحابةكي يعاونوني وحرر الله رقبتي، وعشت حُرًّا مسلمًا، وشهدت مع رسول الله ( غزوةالخندق والمشاهد كلها. [أحمد والطبراني].
وكان سلمان هو الذي أشار بحفر الخندقحول المدينة عندما أرادت الأحزاب الهجوم على المدينة، وعندما وصل أهل مكة المدينة،ووجدوا الخندق، قال أبو سفيان: هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها. ووقف الأنصار يومهايقولون: سلمان منا، ووقف المهاجرون يقولون: بل سلمان منا، وعندها ناداهم الرسول ( قائلاً: (سلمان منا آل البيت) [ابن سعد].
ومما يحكى عن زهده أنه كان أميرًا علىالمدائن في خلافة الفاروق عمر، وكان عطاؤه من بيت المال خمسة آلاف دينار، لا ينالمنه درهمًا واحدًا، ويتصدق به على الفقراء والمحتاجين، ويقول: (أشتري خوصًا بدرهمفأعمله، ثم أبيعه بثلاثة دراهم، فأعيد درهمًا فيه، وأنفق درهمًا على عيالي، وأتصدقبالثالث، ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عن ذلك ما انتهيتُ) [أبو نعيم].
ويروى أنهكان أميرًا على سرية، فمرَّ عليه فتية من الأعداء وهو يركب حمارًا، ورجلاه تتدليانمن عليه، وعليه ثياب بسيطة مهلهلة، فسخروا منه، وقالوا للمسلمين في سخرية وازدراء: هذا أميركم؟ فقيل لسلمان: يا أبا عبد الله ألا ترى هؤلاء وما يقولون؟ فقال سلمان: دعهم فإن الخير والشر فيما بعد اليوم.
[ابن سعد].
ومما رُوي في تواضعه أنهكان سائرًا في طريق، فناداه رجل قادم من الشام ليحمل عن متاعه، فحمل سلمان متاعالرجل، وفي الطريق قابل جماعة من الناس فسلم عليهم، فأجابوا واقفين: وعلى الأميرالسلام، وأسرع أحدهم نحوه ليحمل عنه قائلا: عنك أيها الأمير، فعلم الشامي أنه سلمانالفارسي أمير المدائن، فأَسْقَطَ ما كان في يديه، واقترب ينتزع الحمل، ولكن سلمانهزَّ رأسه رافضًا وهو يقول: لا، حتى أبلغك منزلك. [ابن سعد].
ودخل صاحب له بيته،فإذا هو يعجن فسأله: أين الخادم؟ فقال سلمان: لقد بعثناها في حاجة، فكرهنا أن نجمععليها عملين.
وحين أراد سلمان بناء بيت له سأل البنَّاء: كيف ستبنيه؟ وكانالبنَّاء ذكيًّا يعرف زهد سلمان وورعه، فأجابه قائلاً: لا تخف، إنها بناية تستظلبها من الحر، وتسكن فيها من البرد، إذا وقفت فيها أصابت رأسك، وإذا اضطجعت (نمت) فيها أصابت رجلك. فقال له سلمان: نعم، هكذا فاصنع. وتوفي -رضي الله عنه- في خلافةعثمان بن عفان سنة (35هـ.)
















(29) معاذ بن جبل




شبيه إبراهيم

معاذ بن جبل
إنه أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل -رضي الله عنه-،أحد السبعين رجلا الذين شهدوا بيعة العقبة الثانية من الأنصار، وقد أسلم وهو ابنثماني عشرة سنة، وقد تفقه معاذ في دين الله، فوصفه الرسول ( بأنه (أعلم الناسبالحلال والحرام) [الترمذى].
وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- يجتمعون حولهليتعلموا منه أمور الحلال والحرام، وقال عنه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: عجزتالنساء أن يلدن مثله، ولولاه لهلك عمر. ومدحه عبد الله بن مسعود فقال عنه: كان أمةقانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين، حتى ظن السامع أنه يقصد إبراهيم عليهالسلام، فقال له ابن مسعود: مانسيت، هل تدرى ما الأمَّة؟ وما القانت؟ فقال: اللهأعلم، فقال الأمة الذي يعلم الخير، والقانت المطيع لله وللرسول) [أبو نعيموالحاكم].
وكان معاذ أحد الذين يفتون على عهد رسول الله (، وهم: عمر، وعثمان،وعلي من المهاجرين، وأبي بن كعب ومعاذ، وزيد من الأنصار. بل قدمه عمر في الفقه،فقال: من أراد الفقه؛ فليأت معاذ بن جبل. وكان أصحاب رسول الله ( إذا تحدثوا وفيهممعاذ نظروا إليه هيبة له واحتراما [أبو نعيم].
وقال عمر بن الخطاب يومًالأصحابه: لو استخلفت معاذَا -رضي الله عنه- فسألني ربى عز وجل ما حملك على ذلك؟لقلت: سمعت نبيك ( يقول: (يأتي معاذ بن جبل بين يدي العلماء برتوة (مسافةكبيرة))
[أحمد].
وقد بعثه رسول الله ( إلى اليمن قاضيًا، وقال له: (كيف تقضيإذا عرض لك قضاء)، قــال: أقضـي بكتاب الله. قال: (فإن لم تجد في كتاب الله)، قال: فبسنة رسول الله (، قال: (فإن لم تجد في سنة رسول الله ( ولا في كتاب الله؟) قال: اجتهد رأيي، فضرب رسول الله ( صدره، وقال: (الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لمايرضي رسول الله) [الترمذي وأبو داود وأحمد].
وقابله النبي ( ذات يوم، وقال له: (يا معاذ، إني لأحبك في الله) قال معاذ: وأنا والله يا رسول الله، أحبك في الله. فقال (: (أفلا أعلمك كلمات تقولهن دبر كل صلاة: رب أعني على ذكرك وشكرك وحسنعبادتك). [أبو داود والنسائي والحاكم].
وكان -رضي الله عنه- أحد الصحابة الذينيحفظون القرآن، وممن جمعوا القرآن على عهد رسول الله (، حتى قال عنه النبي (: (استقرئوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بنكعب، ومعاذ بن جبل) [متفق عليه].
يقول أبو مسلم الخولاني: دخلت مسجد حمص فإذافيه ما يقرب من ثلاثين شيخًا من أصحاب رسول الله (، وإذا فيهم شاب أجحل العينين (منالاكتحال)، براق الثنايا، ساكت لا يتكلم، فإذا اختلف القوم في شيء أقبلوا عليهفسألوه، فقلت لجليسي: من هذا؟ قال: معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، فوقع في نفسي حبه،فكنت معهم حتى تفرقوا.
وكان معاذ يحث أصحابه دائما على طلب العلم فيقول: تعلمواالعلم فإن تعلمه لله تعالى خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد،وتعليمه لمن لا يعلم صدقه، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام.
وكانمعاذ حريصا على تمام سنة المصطفى (، متمسكًا بها، وكان يقول: من سره أن يأتي اللهعز وجل آمنا فليأت هذه الصلوات الخمس؛ حيث ينادي بهن، فإنهن من سنن الهدى، ومما سنهلكم نبيكم (، ولا يقل إن لي مصلى في بيتي فأصلى فيه، فإنكم إن فعلتم ذلك تركتم سنةنبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم ( (لضللتم).
وكان كريمًا، كثير الإنفاق، فيروى أنعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعث إليه بأربعمائة دينار مع غلامه، وقال للغلام،انتظر حتى ترى ما يصنع؟ فذهب بها الغلام وقال لمعاذ: يقول لك أمير المؤمنين اجعلهذه في بعض حاجتك، فقال معاذ: رحم الله وصله، تعالى يا جارية اذهبي إلى بيت فلانبكذا، واذهبي إلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ وقالت: نحن والله مساكينفأعطنا، ولم يبق في الصرة إلا ديناران فأعطاهما إياها، ورجع الغلام إلى عمر فأخبرهبما حدث، فسر عمر بذلك. [ابن سعد وأبو نعيم].
وكان كثير التهجد يصلي بالليلوالناس نيام، وكان يقول في تهجده: اللهم نامت العيون وغارت النجوم، وأنت حي قيوم،اللهم طلبي للجنة بطىء، وهربي من النار ضعيف، اللهم اجعل لي عندك هدى ترده إلى يومالقيامة، إنك لا تخلف الميعاد.
ولما حضرته الوفاة قال لمن حوله من أهله: أنظرواأأصبحنا أم لا؟ فقالوا: لا ثم كرر ذلك، وهم يقولون: لا. حتى قيل له أصبحنا فقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار، مرحبًا بالموت مرحبًا، زائر مغب (أي خير) وحبيب جاء على فاقة (حاجة)، اللهم إني قد كنت أخافك فأنا اليوم أرجوك، اللهم إنكتعلم أني لم أكن أحب الدنيا، وطول البقاء فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار،ولكن لظمأ الهواجر (يقصد الصوم)، ومكابدة الساعات (أي قيام الليل)، ومزاحمة العلماءبالركب عن حلق الذكر. ومات معاذ سنة (18هـ) على الأصح وعمره (38) سنة.






(30) أبو هريرة




سيد الحفاظ

أبو هريرة
إنه الصحابي الجليل أبو هريرة -رضي الله عنه-، كان اسمهقبل إسلامه عبد شمس، فلما شرح الله صدره للإسلام سماه الرسول ( عبد الرحمن، وكناهالصحابة بأبي هريرة، ولهذه الكنية سبب طريف، حيث كان عبد الرحمن يعرف بعطفه الكبيرعلى الحيوان، وكانت له هرة (قطة) يحنو عليها، ويطعمها، ويرعاها، فكانت تلازمه وتذهبمعه في كل مكان، فسمي بذلك أبا هريرة، وكان رسول الله ( يدعوه أبا هريرة، فيقول له: (خذ يا أبا هريرة) [البخاري].
وقد ولد أبو هريرة في قبيلة دوس (إحدى قبائلالجزيرة)، وأسلم عام فتح خيبر (سنة 7هـ)، ومنذ إسلامه كان يصاحب النبي ( ويجلس معهوقتًا كبيرًا؛ لينهل من علمه وفقهه، وحاول أبو هريرة أن يدعو أمه إلى الإسلامكثيرًا، فكانت ترفض، وذات يوم عرض عليها الإسلام فأبت، وقالت في رسول الله ( كلامًاسيِّئًا، فذهب أبو هريرة إلى الرسول (، وهو يبكي من شدة الحزن، ويقول: يا رسولالله، إنى كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهى مشركة، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ماأكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة.
فقال رسول الله (: (اللهم اهد أم أبيهريرة)، فخرج أبو هريرة من عند الرسول ( فرحًا مستبشرًا بدعوة نبي الله (، وذهب إلىأمه ليبشرها، فوجد الباب مغلقًا، وسمع صوت الماء من الداخل، فنادت عليه أمه، وقالت: مكانك يا أبا هريرة، وطلبت ألا يدخل حتى ترتدي خمارها، ثم فتحت لابنها الباب،وقالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله.
فرجع أبوهريرة إلى الرسول ( يبكي من الفرح، ويقول: يا رسول الله أبشر، قد استجاب اللهدعوتك، وهدى أم أبي هريرة، فحمد الرسول ( ربه، وأثنى عليه وقال خيرًا، ثم قال أبوهريرة: يا رسول الله، ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحببهمإلينا، فقال رسول الله (: (اللهم حبّبْ عُبَيْدَك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين،وحبب إليهم المؤمنين)، قال أبو هريرة: فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلاأحبني.
[مسلم].
وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يحب الجهاد في سبيل الله، فكانيخرج مع المسلمين في الغزوات، وكان يواظب على جلسات العلم ويلازم النبي (، فكانأكثر الصحابة ملازمة للنبي ( وأكثرهم رواية للأحاديث عنه (، حتى قال عنه الصحابة: إن أبا هريرة قد أكثر الحديث، وإن المهاجرين والأنصار لم يتحدثوا بمثل أحاديثه،فكان يرد عليهم ويقول: إن إخواني من الأنصار كان يشغلهم عمل أراضيهم، وإن إخواني منالمهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق (التجارة)، وكنت ألزم رسول الله ( على ملءبطني، فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا.
ولقد قال رسول الله ( يومًا: (من يبسطثوبه فلن ينسى شيئًا سمعه مني، فبسطت ثوبي حتى قضى من حديثه، ثم ضممتها إليَّ، فمانسيت شيئًا سمعته منه) [مسلم]، ولولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئًاأبدًا {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس فيالكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئكأتوب عليهم وأنا التواب الرحيم } [البقرة: 159- 160].
وكان لأبي هريرة -رضي اللهعنه- ذاكرة قوية قادرة على الحفظ السريع وعدم النسيان، قال عنه الإمام الشافعي -رحمه الله- : إنه أحفظ من روى الحديث في دهره. وقال هو عن نفسه: ما من أحد منأصحاب رسول الله ( أكثر حديثًا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو بن العاصفإنه كان يكتب ولا أكتب.
وكان يحب العلم، فكان طلابه يقبلون عليه، حتى يملئوابيته، كما كان مقدرًا للعلم، فذات يوم كان ممددًا قدميه فقبضهما ثم قال: دخلنا علىرسول الله ( حتى ملأنا البيت وهو مضطجع لجنبه، فلما رآنا قبض رجليه ثم قال: (إنهسيأتيكم أقوام من بعدي يطلبون العلم، فرحبوا بهم وحيُّوهم وعلموهم) [ابنماجه].
وكان أبو هريرة شديد الفقر، لدرجة أنه كان يربط على بطنه حجرًا من شدةالجوع، وذات يوم خرج وهو جائع فمر به أبو بكر -رضي الله عنه-، فقام إليه أبو هريرةوسأله عن تفسير آية من كتاب الله، وكان أبو هريرة يعرف تفسيرها، لكنه أراد أن يصحبهأبو بكر إلى بيته ليطعمه، لكن أبا بكر لم يعرف مقصده، ففسر له الآية وتركه وانصرف،فمر على أبي هريرة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فسأله ففعل معه مثلما فعل أبوبكر.
ثم مر النبي ( فعلم ما يريده أبو هريرة فقال له النبي (: (أبا هريرة)،فقال: لبيك يا رسول الله، فدخلت معه البيت، فوجد لبنًا في قدح، فقال (: (من أين لكمهذا؟) قيل: أرسل به إليك. فقال النبي (: (أبا هريرة، انطلق إلى أهل الصفة (الفقراءالذين يبيتون في المسجد) فادعهم)، فحزن أبو هريرة، وقال في نفسه: كنت أرجو أن أشربمن اللبن شربة أتقوى بها بقية يومي وليلتي، ثم قال في نفسه: لابد من تنفيذ أمرالرسول (، وذهب إلى المسجد، ونادى على أهل الصفة، فجاءوا، فقال في نفسه: إذا شرب كلهؤلاء ماذا يبقى لي في القدح، فأتوا معه إلى بيت النبي (، فقال له النبي (: (أباهر، خذ فأعطهم)، فقام أبو هريرة يدور عليهم بقدح اللبن يشرب الرجل منهم حتى يروىويشبع، ثم يعطيه لمن بعده فيشرب حتى يشبع، حتى شرب آخرهم، ولم يبق في القدح إلا شيءيسير، فرفع النبي ( رأسه وهو يبتسم وقال: (أبا هر) قلت: لبيك يا رسول الله، قال: (بقيت أنا وأنت) قلت: صدقت يا رسول الله، فقال الرسول: (فاقعد فاشرب).
قال أبوهريرة: فقعدت فشربت، فقال: (اشرب). فشربت، فما زال النبي ( يقول لي اشرب فأشرب حتىقلت: والذي بعثك بالحق ما أجد له مساغًا (مكانًا)، فقال النبي (: (ناولني القدح) فأخذ النبي ( القدح فشرب من الفضلة. [البخاري].
وقد أكرم الله أبا هريرة نتيجةلإيمانه وإخلاصه لله ورسوله (، فتزوج من سيدة كان يعمل عندها أجيرًا قبل إسلامه،وفي هذا يقول: نشأتُ يتيمًا، وهاجرت مسكينًا، وكنت أجيرًا عند بسرة بنت غزوان بطعامبطني، فكنت أخدم إذا نزلوا، وأحدوا إذا ركبوا (أي أمشى أجر ركائبهم)، فزوجنيهاالله، فالحمد لله الذي جعل الدين قوامًا، وجعل أبا هريرة إمامًا.
وفي عهد عمر بنالخطاب -رضي الله عنه- تولى أبو هريرة إمارة البحرين، وكان نائبًا لمروان بن الحكمعلى المدينة، فإن غاب مروان كان هو الأمير عليها، وكان يحمل حزمة الحطب على ظهره فيالسوق ويراه الناس.
وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- ناصحًا للناس؛ يأمرهمبالمعروف وينهاهم عن المنكر، وبينما كان يمر بسوق المدينة رأى الناس قد اشتغلوابالدنيا، فوقف في وسط السوق وقال: يا أهل السوق: إن ميراث رسول الله ( يقسم وأنتمهنا، ألا تذهبون فتأخذوا نصيبكم منه! فقالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد. فأسرع الناسإلى المسجد ثم رجعوا إلى أبي هريرة فقال لهم: ما لكم رجعتم؟! قالوا: يا أبا هريرة،قد ذهبنا إلى المسجد، فدخلنا




فيه فلم نر فيه شيئًا يقسم! فقال: وماذا رأيتم؟ قالوا: رأينا قومًا يصلون، وقومًا يقرءون القرآن، وقومًا يذكرون الحلال والحرام، فقال لهمأبو هريرة: فذاك ميراث محمد (.

وعاش أبو هريرة لا يبتغي من الدنيا سوى رضا اللهوحب عباده من المسلمين حتى حضرته الوفاة، فبكى شوقًا إلى لقاء ربه، ولما سئل: مايبكيك؟ قال: من قلة الزاد وشدة المفازة، وقال: اللهم إني أحب لقاءك فأحبب لقائي. وتوفي -رضي الله عنه- بالمدينة سنة (59 هـ)، وقيل سنة (57هـ)، وعمره (78) سنة، ودفنبالبقيع بعدما ملأ الأرض علمًا، وروى أكثر من (5000) حديث.






(31)عبدالله بن رواحة




الشاعر الشهيد

عبد الله بن رواحة
إنه الصحابي الجليل عبد الله بن رواحةالخزرجي الأنصاري -رضي الله عنه- وكان يكنى أبا محمد. وقد حضر بيعتي العقبة الأولىوالثانية، وشهد بدرًا وأحدًا والخندق، وكان أحد شعراء النبي ( الثلاثة، وكان بينيدي النبي ( في عمرة القضاء يقول:
خَلُّوا بني الكُفَّار عَنْ سَبيلِهِنَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الهَامَ عَنْ مَقِيلِهِوَيُذْهِلُ الخَلِيلَ عَنْ خَلِيـله
فنادى عليه عمر وقال له: في حرم الله وبينيدي رسول الله ( تقول هذا الشعر؟ فقال له النبي (: (خَلِّ عنه يا عمر، فوالذي نفسيبيده لكلامه أشد عليهم من وَقْعِ النبل) [أبو يعلي].
وكان عبد الله عابدًا محبًالمجالس العلم والذِّكر، فيروى أنه كان إذا لقى رجلا من أصحابه قال له: تعال نؤمنبربنا ساعة. وذات مرة سمعه أحد الصحابة يقول ذلك، فذهب إلى النبي (، وقال: يا رسولالله، ألا ترى ابن رواحة، يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة؟! فقال له النبي (: (رحمالله ابن رواحة إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة) [أحمد].
وذات مرة ذهبعبد الله إلى المسجد والنبي ( يخطب، وقبل أن يدخل سمع النبي ( يقول: (اجلسوا) فجلسمكانه خارج المسجد حتى فرغ النبي ( من خطبتيه، فبلغ ذلك النبي (، فقال له: (زادكالله حرصًا على طواعية الله ورسوله) [البيهقي].
وكان كثير الخوف والخشية منالله، وكان يبكي كثيرًا، ويقول: إن الله تعالى قال: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 17]، فلا أدري أأنجو منها أم لا؟
وعُرفَ عبد الله بن رواحة بكثرة الصيام حتى فيالأيام الشديدة الحر، يقول أبو الدرداء -رضي الله عنه- خرجنا مع النبي ( في بعضأسفاره في يوم حار حتى وضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلاالنبي ( وابن رواحة.
ولما نزل قول الله تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم ترأنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون} [224-226] أخذ عبد الله فيالبكاء لأنه كان شاعرًا يقول الشعر، ويدافع به عن الإسلام والمسلمين، وقال لنفسه: قد علم الله أني منهم، وكان معه كعب بن مالك، وحسان بن ثابت، وهم شعراء الرسول ( الثلاثة، فنزل قول الله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا اللهكثيرًا وانتصروا من بعد ما ظلموا} [_الشعراء: 227]. ففرح عبد الله بذلك، واستمر فينصرة المسلمين بشعره.
وذات يوم أنشد عبد الله من شعره بين يدي النبي (،وقال:
إِنِّي تَفَرَّسْتُ فِيكَ الخَيْــــرَ أَعْرِفُـــهُ
وَاللهُ يَعْرِفُأنْ ما خَانَنِي الخَبَــــــرُ
أَنْتَ النبي وَمَنْ يُحْــرَمْشَفَاعَتُـــــهُ
يَوْمَ الحِسَابِ لَقَدْ أَزْرَى بِـهِالقَــــدَرُ
فَثَّبَتَ اللهُ مَا آتَـــاكَ مـِنْ حـُسْـــنٍ
تَثَبِيتَمَــــوسَى وَنَصْرًا كَالذي نَصَروا
فدعا له الرسول (: (وإياك فثبَّتَكَ الله) [ابن سعد].
وكما نصر عبد الله الإسلام في ميدان الكلمة، فقد نصره باقتدار فيميدان الحرب والجهاد بشجاعته وفروسيته.
وكان ابن رواحة أمينًا عادلاً، وقد أرسلهالنبي ( إلى يهود خيبر؛ ليأخذ الخراج والجزية مما في أراضيهم، فحاولوا إعطاءه رشوة؛ليخفف عنهم الخراج، فقال لهم: يا أعداء الله، تطعموني السحت؟ والله لقد جئتكم منعند أحب الناس إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضيإياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم (أي أتعامل معكم بالعدل).
وفي شهر جمادىالأولى من السنة الثامنة للهجرة، علم الرسول ( أن الروم قد حشدوا جيوشهم استعدادًاللهجوم على المسلمين، فأرسل النبي ( جيشًا إلى حدود الشام عدده ثلاثة آلاف مقاتل؛ليؤمِّن الحدود الإسلامية من أطماع الروم، وجعل زيد بن حارثة أميرًا على الجيش،وقال لهم: (إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رَواحة) [البخاري].
فلما وصل جيش المسلمين إلي حدود الشام، علموا أن عدد جيش الروم مائتاألف فارس، فقالوا: نكتب إلى النبي ( ليرسل إلينا مددًا من الرجال، أو يأمرنا أننرجع أو أي أمر آخر، فقال لهم ابن رواحة: يا قوم، والله إن التي تكرهون هي التيخرجتم تطلبون، إنها الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، إنما نقاتلهمبهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور (نصر) وإما شهادة.
فكبر المسلمون وواصلوا مسيرتهم حتى نزلوا قرية بالشام تسمى مؤتة،وفيها دارت الحرب، وقاتل المسلمون أعداءهم قتالاً شديدًا، وأخذ زيد بن حارثة يقاتلومعه راية المسلمين، فاستشهد زيد، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب، وراح يقاتل فيشجاعة حتى استشهد، فأخذ عبد الله الراية، فأحس في نفسه بعض التردد، ولكنه سرعان ماتشجع، وراح يقاتل في شجاعة ويقول:
أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلِنَّـهطَائِعَةً أَوْ لَتُكْرهِنَّـــــــه
فَطَالَمَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّـةمَالِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الجَنَّــــةْ
يَا نَفْسُ إلا تُقْتَلِى تَمُوتـيوَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيـــــت
إِنْ تَفْعَلِى فَعْلَهُمَا هُدِيـتِوَإِنْ تَأَخَّرْتِ فَقَد شُقِيــــتِ
ونال عبد الله الشهادة، ولحق بصاحبيه زيدوجعفر.



(32) أبو ذر الغفاري



محامي الفقراء

أبو ذر الغفاري
إنه الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري جندب بنجنادة -رضي الله عنه-، ولد في قبيلة غفار، وكان من السابقين إلى الإسلام، وكان أبوذر قد أقبل على مكة متنكرًا، وذهب إلى الرسول ( وأعلن إسلامه، وكان الرسول ( يدعوإلى الإسلام في ذلك الوقت سرًّا، فقال أبو ذر للنبي (: (بم تأمرني؟ فقال له الرسول (: (ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري)، فقال أبو ذر: والذي نفسي بيده لأصرخنَّبها (أي الشهادة) بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد ونادى بأعلى صوته: أشهد أن لاإله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
فقام إليه المشركون فضربوه ضربًا شديدًا،وأتى العباس بن عبد المطلب عم النبي ( فأكب عليه، وقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه منغفار، وأنه طريق تجارتكم إلى الشام؟ فثابوا إلى رشدهم وتركوه، ثم عاد أبو ذر فيالغد لمثلها فضربوه حتى أفقدوه وعيه، فأكب عليه العباس فأنقذه._[متفقعليه].
ورجع أبو ذر إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام، فأسلم على يديه نصف قبيلة غفارونصف قبيلة أسلم، وعندما هاجر النبي ( إلى المدينة، أقبل عليه أبو ذر مع قبيلتهغفار وجارتها قبيلة أسلم، ففرح النبي ( وقال: (غفار غفر الله لها، وأسلم سالمهاالله) [مسلم]. وخصَّ النبي ( أبا ذر بتحية مباركة فقال: (ما أظلت الخضراء (السماء)،ولا أقلت الغبراء (الأرض) من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر) [الترمذي وابنماجه].
وكان أبو ذر من أشد الناس تواضعًا، فكان يلبس ثوبًا كثوب خادمه، ويأكلمما يطعمه، فقيل له: يا أبا ذر، لو أخذت ثوبك والثوب الذي على عبدك وجعلتهما ثوبًاواحدًا لك، وكسوت عبدك ثوبًا آخر أقل منه جودة وقيمة، ما لامك أحد على ذلك، فأنتسيده، وهو عبد عندك، فقال أبو ذر: إني كنت ساببت (شتمت) بلالاً، وعيرته بأمه؛ فقلتله: يا ابن السوداء، فشكاني إلى رسول الله (، فقال لي النبي (: (يا أبا ذر، أعيرتهبأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية)، فوضعت رأسي على الأرض، وقلت لبلال: ضع قدمك على رقبتيحتى يغفر الله لي، فقال لي بلال: إني سامحتك غفر الله لك، وقال (: (إخوانكم خولكم (عبيدكم)، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسهمما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) [البخاري].
وكان أبوذر -رضي الله عنه- يحب الله ورسوله ( حبًّا كبيرًا، فقد روى أنه قال للنبي (: يارسول الله، الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل بعملهم، فقال له النبي (: (أنت معمَنْ أحببت يا أبا ذر) فقال أبو ذر: فإني أحب الله ورسوله، فقال له النبي (: (أنتمع مَن أحببت) [أحمد]، وكان ( يبتدئ أبا ذر إذا حضر، ويتفقده (يسأل عنه) إذاغاب.
وقد أحب أبو ذر العلم والتعلم والتبحر في الدين وعلومه، وقال عنه علي بنأبي طالب -رضي الله عنه-:




وعى أبو ذر علمًا عجز الناس عنه، ثم أوكأ عليه فلم يخرجشيئًا منه. وكان يقول: لباب يتعلمه الرجل (من العلم) خير له من ألف ركعةتطوعًا.

وكان -رضي الله عنه- زاهدًا في الدنيا غير متعلق بها لا يأخذ منها إلاكما يأخذ المسافر من الزاد، فقال عنه النبي (: (أبو ذر يمشى في الأرض بزهد عيسى بنمريم عليه السلام) [الترمذي].
وكان أبو ذر يقول: قوتي (طعامي) على عهد رسول الله ( صاع من تمر، فلست بزائد عليه حتى ألقى الله تعالى. ويقول: الفقر أحب إليَّ منالغنى، والسقم أحب إليَّ من الصحة. وقال له رجل ذات مرة: ألا تتخذ ضيعة (بستانًا) كما اتخذ فلان وفلان، فقال: لا، وما أصنع بأن أكون أميرًا، إنما يكفيني كل يوم شربةماء أو لبن، وفي الجمعة قفيز (اسم مكيال) من قمح. وكان يحارب اكتناز المال ويقول: بشر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم يومالقيامة.
وكان يدافع عن الفقراء، ويطلب من الأغنياء أن يعطوهم حقهم من الزكاة؛لذلك سُمي بمحامي الفقراء، ولما عرض عليه عثمان بن عفان أن يبقى معه ويعطيه مايريد، قال له: لا حاجة لي في دنياكم.
وعندما ذهب أبو ذر إلى الرَّبذة وجد أميرهاغلامًا أسود عيَّنه عثمان بن عفان
-رضي الله عنه-، ولما أقيمت الصلاة، قالالغلام لأبي ذر: تقدم يا أبا ذر، وتراجع الغلام إلى الخلف، فقال أبو ذر، بل تقدمأنت، فإن رسول الله ( أمرني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدًا أسود. فتقدم الغلام وصلىأبو ذر خلفه.
وظل أبو ذر مقيمًا في الرَّبَذَة هو وزوجته وغلامه حتى مرض مرضالموت فأخذت زوجته تبكي، فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: ومالي لا أبكي وأنت تموتبصحراء من الأرض، وليس عندي ثوب أكفنك فيه، ولا أستطيع وحدي القيام بجهازك، فقالأبو ذر: إذا مت، فاغسلاني وكفناني، وضعاني على الطريق، فأول ركب يمرون بكما فقولا: هذا أبو ذر. فلما مات فعلا ما أمر به، فمرَّ بهم
عبد الله بن مسعود مع جماعة منأهل الكوفة، فقال: ما هذا؟ قيل: جنازة أبي ذر، فبكى ابن مسعود، وقال: صدق رسول الله (: يرحم الله أبا ذر، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده)، فصلى عليه، ودفنهبنفسه.
[ابن سعد]، وكان ذلك سنة (31هـ) وقيل: سنة (32 هـ).

(33) أبي بن كعب
سيد القراء
أبي بن كعب
إنه أبي بن كعب -رضي الله عنه- أحد فقهاء الصحابةوقرَّائهم، (وقد شهد بيعة العقبة الثانية، وبايع النبي ( فيها، وكان من الأنصارالذين نصروا رسول الله (، واستقبلوه في يثرب، وقد شهد كل الغزوات مع النبي (، وأمهصهيلة بنت الأسود، عمة أبي طلحة الأنصاري، وكان يُكَنَّى بأبي الطفيل وأبيالمنذر.
وسأله النبي ( ذات يوم: (يا أبا المنذر أتدرى أي آية من كتاب الله معكأعظم؟) فأجاب قائلا: الله ورسوله أعلم. فأعاد النبي ( سؤاله: (يا أبا المنذر أتدرىأي آية من كتاب الله معك أعظم؟) فأجاب أُبي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} فضربالنبي ( صدره بيده، ودعا له بخير، وقال: (ليَهْنِك العلم أبا المنذر (أي هنيئًا لكالعلم).
[
مسلم].
وكان أبي بن كعب -رضي الله عنه- من (أوائل الذين كانوايكتبون الوحي عن النبي (، ويكتبون الرسائل، وقد قال عنه النبي (: (أقرأ أمتي أبى) [الترمذي].
وكان من أحرص الناس على حفظ القرآن الكريم، قال له رسول الله ( يومًا: (يا أبي بن كعب، إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لم يكن الذين كفروا من أهلالكتاب} [البينة: 1]، فقال أُبي في نشوة غامرة: يا رسول الله: بأبي أنت وأمى، آللهسمَّاني لك؟ فقال الرسول (: (نعم)، فجعل أبي -رضي الله عنه- يبكى من شدة الفرح. [مسلم].
وكان -رضي الله عنه- واحدًا من الستة أصحاب الفُتْيَا الذين أذن لهمرسول الله ( بالحكم في حوائج الناس، وفض المنازعات التي تحدث بينهم، وردِّ المظالمإلى أهلها، وهم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بنكعب، وزيد بن حارثة، وأبو موسى الأشعري.
وقال ( فيه وفي غيره: (أرحم أمتي بأمتيأبو بكر، وأشدَّهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بنكعب، وأفرضهم (أعلمهم بالمواريث) زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بنجبل، ألا وإن لكل أمة أمينًا، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح)
[
الترمذىوابن ماجه].
وكان -رضي الله عنه- لا يخاف في الله لومة لائم، وكان من الذين لايطلبون من الدنيا عرضًا، فليس لها نصيب في قلوبهم، فعندما اتسعت بلاد المسلمين ورأىالناس يجاملون ولاتهم في غير حق قال: هلكوا وربِّ الكعبة، هلكوا وأهلكوا، أما إنيلا آسى (أحزن عليهم) ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين.
وكان أبي بن كعب ورعًاتقيًّا يبكي إذا ذكر الله، ويهتز كيانه حين يرتل آيات القرآن أو يسمعها، وكان إذاتلا أو سمع قوله تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحتأرجلكم أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهميفقهون}_[الأنعام: 65]، يغشاه الهم والأسى.
وقد روي أن رجلا من المسلمين، قال يارسول الله: أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا وما نلاقيها؟ قال: (كفارات)، فقال أبيابن كعب: يا رسول الله، وإن قَلَّتْ؟ قال: (وإن شوكة فما فوقها)، فدعا أبي أن لايفارقه الوَعْك حتى يموت، وأن لا يشغله عن حج، ولا عمرة ولا جهاد، ولا صلاة مكتوبةفي جماعة، فقال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: فما مس إنسان جسده إلا وجد حرَّهحتى مات. [أحمد وابن حبان].
وقد كان أبي -رضي الله عنه- مستجاب الدعوة، فيحكىابن عباس أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال لجمع من الصحابة: اخرجوا بنا إلى أرضقومنا. فكان ابن عباس مع أبي بن كعب في مؤخرة الناس، فهاجت سحابة، فدعا أبي قائلا: اللهم اصرف عنا أذاها. فلحق ابن عباس وأبي الناس، فوجدوا أن رحالهم ابتلت: فقالعمر: ما أصابكم؟ (أي: كيف لم تبل رحالكما؟) فقال ابن عباس: إن أبيَّا قال: اللهماصرف عنا أذاها. فقال عمر: فهلا دعوتم لنا معكم.
وكان عمر يجل أبيَّا، ويستفتيهفي القضايا، وقد أمره أن يجمع الناس فيصلي بهم في المسجد صلاة التراويح في رمضان،وقبلها كان يصلي كل إنسان وحده.
وروى أبي بن كعب -رضي الله عنه- بعض الأحاديث عنرسول الله ( ، وروى عنه بعض الصحابة والتابعين، ومن أقواله -رضي الله عنه-: ما تركأحد منكم لله شيئًا إلا آتاه الله ما هو خير له منه من حيث لا يحتسب، ولا تهاون بهوأخذه من حيث لا يعلم إلا آتاه ما هو أشد عليه من حيث لا يحتسب. وقال له رجل -ذاتيوم- أوصني: فقال له أُبيُّ: اتخذ كتاب الله إمامًا، وارض به قاضيًا وحكمًا، فإنهالذي استخلف فيكم رسولكم، شفيع، مطاع، وشاهد لا يتهم، فيه ذكركم وذكر من قبلكم،وحكم ما بينكم، وخبركم وخبر ما بعدكم. [أبو نعيم].
وتوفي -رضي الله عنه- فيخلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ويوم موته رأى رجل الناس في المدينة يموجون فيسككهم، فقال: ما شأن هؤلاء؟ فقال بعضهم: ما أنت من أهل البلد؟ قال: لا. قال: فإنهقد مات اليوم سيد المسلمين، أبي بن كعب.
(34)أسامة بن زيد
الحِب بن الحِب
أسامة بن زيد
إنه الصحابي الجليل أسامة بن زيد -رضي اللهعنه-، وهو ابن مسلمين كريمين من أوائل السابقين إلى الإسلام، فأبوه زيد بن حارثة،وأمه السيدة أم أيمن حاضنة رسول الله ( ومربيته.
كان شديد السواد، خفيف الروح،شجاعًا، رباه النبي ( وأحبه حبًّا كثيرًا، كما كان يحب أباه فسمي الحِبّ بن الحبّ،وكان النبي ( يأخذه هو والحسن ويقول: (اللهم أحبهما فإني أُحِبُّهما) [أحمدوالبخاري].
وكان أسامة شديد التواضع، حاد الذكاء، يبذل أقصى ما عنده في سبيلدينه وعقيدته.
وخرج أسامة مع النبي ( (عام الفتح إلى مكة راكبًا خلفه ( علىبغلته، ودخل النبي ( الكعبة ليصلي فيها ركعتين، ومعه أسامة وبلال، ووقع أسامة علىالأرض فجرحت جبهته؛ فقام النبي ( مسرعًا ليمسح الدم الذي يسيل منها حتى وقفالنزيف.
وذات يوم تلقى أسامة من رسول الله ( درسًا لا ينساه أبدًا، يقول أسامة: بعثنا رسول الله ( إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصاررجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله فكف الأنصاري فطعنته برمح حتى قتلته،فلما قدمنا بلغ النبي ( فقال: يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ قلتكان متعوذًا، فما زال يكررها الرسول ( حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. ثم قال أسامة للرسول (: إني أعُطى الله عهدًا، ألا أقتل رجلا يقول: لا إله إلا اللهأبدًا، فقال النبي (: (بعدى يا أسامة؟) قال: بعدك. [متفق عليه].
وقد حمل أسامةكل صفات ومواهب القائد الشجاع، مما زاد من إعجاب النبي ( به، فجعله قائدًا لجيشالمسلمين لغزو الروم، وجعله الرسول ( أميرًا على جيش فيه كبار الصحابة، كأبي بكروعمر، فاستكثر بعض المسلمين على أسامة كل هذا، وتكلموا في ذلك، ولما علم النبي ( صعد المنبر وحمد الله ثم أثنى عليه وقال: (إن تطعنوا في إمارته (أي إمارة أسامة)؛فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله، إن كان لخليقًا للإمارة لجديرًابها، وإن كان لمن أحب الناس إليَّ (يقصد زيد بن حارثة)، وإن هذا لمن أحب الناسإليَّ بعده) [متفق عليه].
ويموت النبي ( قبل أن يتحرك جيش أسامة إلى غايته التيحددها الرسول ( وهى قتال الروم، (وقبل أن يموت النبي ( أوصى أصحابه أن يسارعوابتحريك جيش أسامة فقال لهم: (أنفذوا بعث أسامة، أنفذوا بعث أسامة) [ابن حجر فيالفتح].
ويتولى أبو بكر الخلافة بعد رسول الله (، ويصر على إنجاز وصية الرسول (،فيقول له عمر: إن الأنصار ترى أن يتولى قيادة الجيش من هو أكبر سنًّا من أسامة،فيغضب أبو بكر -رضي الله عنه- ويقول: ثكلتك أمك يابن الخطاب، استعمله رسول الله ( وتأمرني أن أنزعه، والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تخطفني؛ لأنفذت بعثأسامة.
ويخرج القائد أسامة من المدينة بجيشه، ويخرج معه أبو بكر مودعًا، وبينماأسامة راكب على فرسه، إذا بأبي بكر يسير على قدميه، فيستحي أسامة من هذا الموقف،ويقول لأبي بكر: يا خليفة رسول الله (، والله لتركبن أو لأنزلن. فيقول أبو بكر: والله لا نزلت، والله لا ركبتُ، وما عليَّ أن أغبر
قدمي في سبيل الله ساعة، ثميستأذن أبو بكر من أسامة أن يبقى معه عمر في المدينة ليعينه على أمور الحكم فيعطيأعظم قدوة في استئذان القائد مهما كان صغيرًا.
وانطلق جيش أسامة إلى البلقاء،ليهاجم القرى التي حددها له رسول الله ( وخليفته أبو بكر، فينتصر عليهم ويأسر منهمالكثير، ويجمع الغنائم، ويعود إلى المدينة منتصرًا بعد أن لقن الروم درسًا لا ينسى،ويعود الجيش بلا ضحايا فيقول المسلمون يومئذ: ما رأينا جيشًا أسلم من جيشأسامة.
وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما يقسم أموال بيت المال علىالمسلمين، يجعل نصيب أسامة منها ثلاثة آلاف وخمسمائة، في حين يعطي ابنه
عبد اللهثلاثة آلاف، فيقول ابن عمر لأبيه: لقد فضلت عليَّ أسامة، وقد شهدت مع رسول الله ( ما لم يشهد، فيرد عليه عمر قائلاً: إن أسامة كان أحب إلى رسول الله ( منك، وأبوهكان أحب إلى رسول الله ( من أبيك._[الترمذي وابن سعد].
وعندما نشبت الفتنة بينعلي ومعاوية -رضي الله عنهما- وقف أسامة محايدًا مع حبه الشديد لعلي، وبعث له رسالةقال فيها: يا أبا الحسن إنك والله لو أخذت بمشفر الأسد (فمه) لأخذت بمشفره الآخرمعك حتى نهلك جميعًا أو نحيا جميعًا، فأما هذا الأمر الذي أنت فيه فوالله لا أدخلفيه أبدًا، ولزم أسامة داره فترة النزاع حتى لا يقتل مسلمًا.
وكان -رضي اللهعنه- كثير العبادة، محافظًا على صوم يوم الاثنين والخميس مع كبر سنه وضعف جسمه؛تأسيًا برسول الله ( ، وتوفي أسامة
-
رضي الله عنه- في خلافة معاوية بن أبي سفيانسنة (54هـ)، وقد روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين.
(35)أسيد بن حضير
صاحب الصوت الجميل
أسيد بن حضير
إنه أسيد بن حضير بن عبد الأشهل الأنصاري -رضي الله عنه-، فارس قومه ورئيسهم، فأبوه حضير الكتائب زعيم الأوس، وواحد من كبارأشراف العرب في الجاهلية.
وكان أسيد أحد النقباء الذين اختارهم الرسول ( ليلةالعقبة الثانية، فقد أسلم أسيد بعد بيعة العقبة الأولى، عندما بعث النبي ( مصعب بنعمير إلى المدينة، فجلس هو وأسعد بن زرارة في بستان، وحولهما أناس يستمعون إليهما،وبينما هم كذلك، كان أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ زعيما قومهما يتشاوران في أمر مصعببن عمير الذي جاء يدعو إلى دين جديد.
فقال سعد لأسيد: انطلق إلى هذا الرجل،فازجره، فحمل أسيد حربته وذهب إليهما غضبان، وقال لهما: ما جاء بكما إلى حيِّنا (مدينتنا)، تسفهان ضعفاءنا)؟ اعتزلانا، إذا كنتما تريدان الحياة. فقال له مصعب: أَوَ تَجْلِس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره؟ فقالأسيد: لقد أنصفت، هاتِ ما عندك. فأخذ مصعب يكلمه عن الإسلام ورحمته وعدله، وراحيقرأ عليه آيات من القرآن، فأشرق وجه أسيد بالنور، وظهرت عليه بشاشة الإسلام حتىقال من حضروا هذا المجلس: والله (لقد عرفنا في وجه أسيد الإسلام قبل أن يتكلم،عرفناه في إشراقه وتسهله.
ولم يكد مصعب ينتهي من حديثه حتى صاح أسيد قائلاً: ماأحسن هذا الكلام وأجمله، كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين؟ فقال له مصعب: تطهّر بدنك وثوبك، وتشهد شهادة الحق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسولالله، ثم تصلي.
فقام أسيد مسرعًا فاغتسل وتطهر ثم صلى ركعتين معلنًا إسلامه. وعاد أسيد إلى سعد بن معاذ، وما كاد يقترب من مجلسه، حتى قال سعد لمن حوله: أقسم،لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به، ثم قال له سعد: ماذا فعلت؟ فقال أسيد: كلمتالرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما، فقالا لي: نفعل ما أحببت، ثم قالأسيد لسعد بن معاذ: لقد سمعت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وهميعلمون أنه ابن خالتك، فقام سعد غضبان وفي يده حربته، ولما وصل إلى مصعب وأسعدوجدهما جالسين مطمئنين، عندها أدرك أن هذه حيلة من أسيد لكي يحمله على السعي إلىمصعب لسماعه، واستمع سعد لكلام مصعب واقتنع به وأعلن إسلامه، ثم أخذ حربته، وذهب معأسيد بن حضير إلى قومهما يدعوانهم للإسلام، فأسلموا جميعًا.
وقد استقبل أسيدالنبي ( لما هاجر إلى المدينة خير استقبال، وظل أسيد يدافع عن الإسلام والمسلمين،فحينما قال عبد الله بن أبي بن سلول لمن حوله من المنافقين أثناء غزوة بني المصطلق: لقد أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكملتحولوا إلى غير دياركم، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فقال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه منها إن شاء الله، هو والله الذليل، وأنتالعزيز يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون لهالخرز (حبات يطرز بها التاج) ليتوجوه على المدينة ملكًا، فهو يرى أن الإسلام قدسلبه ملكًا.
وذات ليلة أخذ يقرأ القرآن، وفرسه مربوطة بجواره، فهاجت الفرس حتىكادت تقطع الحبل، وعلا صهيلها، فسكت عن القراءة فهدأت الفرس ولم تتحرك، فقرأ مرةثانية فحدث للفرس ما حدث لها في المرة الأولى، وتكرر هذا المشهد عدة مرات، فسكتخوفًا منها على ابنه الصغير الذي كان ينام في مكان قريب منها، ثم نظر إلى السماءفإذا به يرى غمامة مثل الظلة في وسطها مصابيح مضيئة، وهى ترتفع إلى السماء.
فلماأصبح ذهب إلى الرسول ( وحدثه بما رأى، فقال له النبي (: (تلك الملائكة دنت (اقتربت) لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم) [البخاري].
وعاش أسيد -رضي الله عنه- عابدًا قانتًا، باذلا روحه وماله في سبيل الله، وندم أسيد على تخلفهعن غزوة بدر، وقال: ظننت أنها العير، ولو ظننت أنه غزو ما تخلفت. [ابن سعد]، وقدجرح أسيد يوم أحد سبع جراحات، ولم يتخلف عن غزوة بعدها قط.
وبعد وفاة النبي ( اجتمع فريق من الأنصار في سقيفة بني ساعدة على رأسهم سعد بن عبادة، وأعلنوا أحقيتهمبالخلافة، وطال الحوار، واشتد النقاش بينهم، فوقف أسيد بن حضير مخاطبًا الأنصارقائلاً: تعلمون أن رسول الله ( كان من المهاجرين، فخليفته إذن ينبغي أن يكون منالمهاجرين، ولقد كنا أنصار رسول الله، وعلينا اليوم أن نكون أنصار خليفته.
وكانأبو بكر -رضي الله عنه- لا يقدم عليه أحدًا من الأنصار، تقول السيدة عائشة: ثلاثةمن الأنصار لم يكن أحد منهم يلحق في الفضل، كلهم من بني
عبد الأشهل: سعد بنمعاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر. [ابن هشام].
وتوفي أسيد -رضي الله عنه- فيعام (20 هـ)، وأصرَّ أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب أن يحمل نعشه على كتفه، ودفنهالصحابة بالبقيع بعد أن صلوا عليه، ونظر عمر في وصيته، فوجد أن عليه أربعة آلافدينار، فباع ثمار نخله (البلح أو التمر) أربع سنين بأربعة آلاف، وقضى دينه. [البخاري وابن سعد[.

(36)أنس بن مالك

خادم الرسول
أنس بن مالك

إنه الصحابي الجليل أنس بن مالك بن النضر الأنصاريالخزرجي -رضي الله عنه-وأمه الرميصاء أم سليم بنت ملحان الأنصارية -رضي الله عنها- وكانت أمه قد أتت به وهو ابن عشر سنين إلى النبي ( في المدينة، وقالت له: هذا غلاميخدمك. فقبله النبي (، وكنَّاه أبا حمزة، ولازم الغلام رسول الله ( ملازمة شديدة،ما فارقه فيها أبدًا. وخدم أنس النبي ( عشر سنين، وشهد معه ثماني غزوات، وصلى معهإلى القبلتين.
وامتلأ قلب أنس بحب النبي (، فها هو ذا يقول: ما من ليلة إلا وأناأرى فيها حبيبي (يقصد رسول الله (). وقد أحبت أسرة أنس رسول الله ( حبًّا شديدًا،وكانت لأسرته في قلب رسول الله ( منزلة خاصة، فأمه أم سليم، وخالته أم حرام بنتملحان، وعمه أنس بن النضر بطل أحد، وعمته الربيع بنت النضر.
وكان أنس يحفظ سررسول الله (، فها هو ذا -رضي الله عنه- يقول: أسر إليَّ رسول الله ( سرًا فما أخبرتبه أحدًا بعد، ولقد سألتني عنه أم سليم فما أخبرتها به. وكان النبي ( يحب أنسًاويقربه إليه ويمازحه، فلقد قال له يومًا: (ياذا الأذنين) [أبو داودوالترمذي].
واشتهر أنس -رضي الله عنه- بالعلم والفقه والتبحر في علوم الدين،وروى كثيرًا من أحاديث الرسول ( ، وما يدل على علمه الغزير أنه قال لثابت البناني: يا ثابت خذ عني، فإنك لن تأخذ عن أحد أوثق مني، إني أخذته عن رسول الله ( عن جبريل،وأخذه جبريل عن الله.
وشارك أنس -رضي الله عنه- في حروب الردة في عهد أبي بكرالصديق -رضي الله عنه-، وقد استخدمه أبو بكر -رضي الله عنه- في جمع الصدقات، فدخلعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فاستشاره أبو بكر فقال عمر: ابعثه فإنه لبيب كاتب. وكان -رضي الله عنه- ممن حضر موقعة اليمامة، وشهد الفتوحات في عهد عمر، وعثمان بنعفان، ومعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهم-.
وكان لأنس بن مالك -رضي الله عنه- فضائل كثيرة، فقد روى ثابت البناني قوله: كنت مع أنس فجاء قهرمانه (حاجبه) فقال: ياأبا حمزة، عطشت أرضك، فقام أنس فتوضأ وخرج إلى البرية، فصلى ركعتين ثم دعا، قالثابت: فرأيت السحاب تلثم ثم أمطرت حتى ملأت كل شيء، فلما سكن المطر بعث أنس بعضأهله فقال له: انظر أين بلغت السماء؟ فنظر فلم تجاوز أرضه إلا يسيرًا، وكان ذلك فيالصيف.
وكان يحب الستر على المسلمين، فيروى أن صالح بن كرز جاء بجارية له زنتإلى الحكم بن أيوب، وبينما هو جالس إذ جاء أنس بن مالك -رضي الله عنه- فجلس فقال: يا صالح ما هذه الجارية معك؟ فقال صالح: جارية لي بغت فأردت أن أرفعها إلى الإمامليقيم عليها الحد، فقال: لا تفعل، رد جاريتك، واتق الله، واستر عليها، فقال صالح: ما أنا بفاعل، فقال أنس: لا تفعل وأطعني، فلم يزل يراجعه حتى ردها.
وفي عهد عبدالملك بن مروان، لقى أنس بعض الأذى من الحجاج بن يوسف الثقفي، فاشتكاه أنس إلى عبدالملك وقال: لو أن اليهود رأوا خادم نبيهم لأكرموه، وأنا خدمت رسول الله ( عشرسنين، فبعث
عبد الملك بن مروان إلى الحجاج يعنفه ويزجره، ويأمره أن يذهب إلى أنسويقبل يديه ورجليه.
وقد ضعف أنس في آخر أيامه، ولم يعد يستطيع الصوم فأحضرطعامًا وأطعم ثلاثين مسكينًا، ولما مرض سأله أهله أن يأتوا له بطبيب فقال لهم: الطبيب أمرضني. وقال وهو يحتضر: لقنوني لا إله إلا الله.
وتوفي أنس -رضي اللهعنه- بالبصرة في أوائل التسعينيات من القرن الأول الهجري، وعمره يقترب من المائة،وكان آخر من مات من أصحاب رسول الله ( بالبصرة، ولما مات قال أهل البصرة: ذهب اليومنصف العلم، وذلك لأنهم كانوا يرجعون إليه في كل ما اختلفوا فيه من حديث رسول الله (.
(37)أبو أيوب الأنصاري
المجاهد
أبو أيوب الأنصاري

إنه أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد -رضي اللهعنه-، حفيد مالك بن النجار، وأمه هند بنت سعيد، آخى الرسول ( بينه وبين مصعب بنعمير، شهد بيعة العقبة الثانية.
وعندما وصل رسول الله ( إلى أرض النصرة والإيمانمختتمًا رحلته الطويلة التي هاجر فيها من مكة إلى المدينة، وصار وسط جموع المسلمينالتي خرجت لاستقباله، وتزاحم الناس حول زمام ناقته، كل يريد أن يستضيف رسول الله (،والنبي ( يقول لهم: (خلوا سبيلها، فإنها مأمورة) [البيهقي].
ويمضي موكب رسولالله ( ويصل إلى حي بني ساعدة، فحي بني الحارث، فحي بني عدي، ويخرج من كل حي منيعترض طريق الناقة آملاً أن يسعدوا بنزول رسول الله ( في ديارهم، وفي كل مرة يجيبهمالنبي ( (خلوا سبيلها، فإنها مأمورة) [البيهقي].
إن قدر الله -عز وجل- هو الذييتحكم في اختيار مكان نزول النبي ( حيث سيكون لهذا المكان مكانته العظيمة، ففوقأرضه سيقام المسجد الذي تنطلق منه أشعة الهدى والنور؛ لتضيء الدنيا بأسرها، وبجوارهذا المسجد سيقيم النبي ( في حجرات متواضعة.
وأمام دار مالك بن النجار بركتالناقة، ثم نهضت وطوَّفت بالمكان، ثم عادت إلى مكانها الأول، ونزل رسول الله ( متفائلا، وتقدم أحد المسلمين، وقد عمرت الفرحة قلبه، فحمل متاع الرسول ( وأدخلهبيته، ثم دعا رسول الله ( للدخول.
وكان بيت أبي أيوب مالك بن دينار طابقين،فاختار رسول الله ( الطابق الأسفل ليكون محل إقامته، وصعد أبو أيوب إلى الدورالعلوي ولكنه لم ينم تلك الليلة، لأنه لم يستطع أن يتخيل نفسه وهو نائم في مكانأعلى من المكان الذي ينام فيه الرسول (. وفي الليل سال الماء في غرفته، فقام هووزوجته أم أيوب ينظفانه خشية أن يصل إلى رسول الله ( منه شيء.
وفي الصباح ذهبأبو أيوب إلى النبي ( وأخذ يلح عليه ويرجوه أن ينتقل إلى الطابق العلوي، فاستجابالنبي ( لرجائه، وظل الرسول ( في بيت أبي أيوب حتى انتهى من بناء المسجد، وبناءحجرة له بجواره.
وكان -رضي الله عنه- محبًّا للجهاد في سبيل الله، فمنذ أن حضربيعة العقبة الثانية وحتى منتصف القرن الأول الهجري وهو يعيش في جهاد متواصل، لايغيب عن حرب، ولا يتكاسل عن غزو، وشهد مع رسول الله ( بدرًا وأحدًا والخندق،والغزوات كلها، وحتى بعد وفاة النبي ( لم يتخلف عن غزوة كُتب للمسلمين أن يخوضوهاإلا غزوة قد أمَّر فيها على الجيش شاب لم يقنع أبو أيوب بإمارته، فقعد ولم يخرجمعهم، ولكنه ما لبث أن ندم على موقفه هذا وقال: ما خبرني مَنْ استُعمِلَ عليّ؟ ثمخرج فلحق بالجيش.
ورغم أن عمره تجاوز الثمانين عامًا إلا أنه ما كاد يسمع منادىالجهاد يحثُّ المسلمين على الخروج لفتح القسطنطينية (إستامبول الآن) حتى حمل سيفهعلى عاتقه قائلا: أمرنا الله -عز وجل- أن ننفر في سبيله على كل حال، فقال تعالى: {انفروا خفافًا وثقالاً} [التوبة: 41].
وفي هذه المعركة أصيب أبو أيوب، فذهبقائد الجيش يزيد بن معاوية يعوده، وقال له: ما حاجتك أبا أيوب؟ فقال: إذا أنا متفاحملوني إلى أرض العدو ثم ادفنوني، ثم قال لهم: أما إني أحدثكم بحديث سمعته منرسول الله ( سمعته يقول: (من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة) [متفق عليه]. وبالفعل كان له ما أراد، فلما كان الصباح قالت الروم للمسلمين: لقد كان لكم الليلشأن عظيم، فقالوا: هذا رجل من أكابر أصحاب نبينا (، وأقدمهم إسلامًا، قد دفناه حيثرأيتم، والله لئن نُبِشَ قبره لا يُضْرَب لكم ناقوس أبدًا (شعائر عبادتهم) في أرضالعرب ما كانت لنا دولة، فكان الروم يتعاهدون قبره، ويزورونه.
وكان -رضي اللهعنه- زاهدًا ورعًا لا يحب البذخ أو الترف، فقد دخل يومًا بيتًا من بيوت المسلمينفوجد أصحابه قد زينوه بالستائر فطأطأ رأسه ناكرًا لفعلهم، وتركهم وقفل راجعًا، وكانواحدًا من رهبان الليل وفرسان النهار، عشق الجهاد، وتمنى الشهادة.
وظل هكذا حتىلقى ربه بعد حياة طويلة شاقة قضاها جنديًّا من جنود الله الذين لم يرضوا لأنفسهمالركون إلى الدنيا، وخرجوا بأنفسهم وأموالهم فاتحين بلاد المشرق والمغرب، ليُخرجواالعباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وليسعدوا جميعًا بالإسلام في الأرض.

(38)العباس بن عبد المطلب
ساقي الحرمين
العباس بن عبد المطلب

إنه العبَّاس بن عبد المطلب -رضي اللهعنه- عم رسول الله (، كان من أكرم الناس وأجودهم، قال عنه رسول الله (: (هذا العباسأجود قريش كفًّا، وأوصلها) [أحمد]. ويروى أنه أعتق عند وفاته سبعين عبدًا.
وكانالنبي ( يحبه حبًّا شديدًا، ويقول (: من آذى عمي فقد آذاني، فإنما عم الرجل صنوأبيه (أي مثل أبيه)) [الترمذي]. وقد كان العباس أكبر سنًّا من النبي (، فقد ولدقبله بثلاث سنين، ومن حسن أدبه أنه لما سُئل: أأنت أكبر أم رسول الله؟ قال: هوأكبر، وأنا ولدت قبله) [الطبراني].
وكان العباس من سادة قريش، وكان يتعهد المسجدالحرام، فيسقي الحجاج ويقوم بخدمتهم، وقد ورث ذلك عن أبيه عبد المطلب، وكان قبلإسلامه شديد الحب لرسول الله (، ويقف بجانبه، ويدفع عنه أذى المشركين، وحضر معالنبي ( بيعة العقبة الثانية، ليطمئن عليه ( وهو لم يعلن إسلامه بعد، فلما التقوا،وتواعدوا على أن يكون اللقاء في اليوم التالي، كان العباس أول من أتى، فبايعالأنصار رسول الله ( على النصرة والبيعة، والعباس آخذ بيده. [ابن سعد].
فلماكانت غزوة بدر، أمر الرسول ( المسلمين بأن لا يقتلوا العباس لأنه خرج مستكرهًا،وبعد المعركة استطاع أبو اليسر -رضي الله عنه- أن يأسر العباس، فلما أحضره إلىالنبي ( سأله رسول الله كيف أسرته؟ قال أبو اليسر: لقد أعانني عليه رجل ما رأيتهقبل ولا بعد هيئته كذا، فقال رسول الله (: (لقد أعانك عليه ملك كريم).
[
ابن هشاموابن سعد].
وقد خشى النبي ( على عمه، وخاف أن يقتله الأنصار، فأمر عمر أن يأتيهمويأتي بالعباس إليه، فلبَّتْ الأنصار أمر نبيهم، وتركوا العباس، فقال العباس: يارسول الله، إني كنت مسلمًا. فنزل قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم منالأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرًا يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم ويغفر لكم واللهغفور رحيم} [الأنفال: 70].
ويروى أن رجلا من الأنصار سبَّ أبا للعباس كان فيالجاهلية، فغضب العباس ولطمه، فجاء الأنصاري إلى قومه، فقالوا: والله لنلطمنه كمالطمه، فلبسوا السلاح. فبلغ ذلك النبي ( فصعد المنبر، وقال: (أيها الناس، أي أهلالأرض أكرم على الله؟) قالوا: أنت. قال: (فإن العباس مني وأنا منه، لا تسبُّواأمواتنا فتؤذوا أحياءنا). فجاء القوم فقالوا: نعوذ بالله من غضبك يا رسول الله. [أحمد وابن سعد والحاكم].
وقد أسلم العباس -رضي الله عنه- قبل فتح مكة، وحضرالفتح، وهو الذي طلب الأمان لأبي سفيان بن حرب، وكان سببًا في إيمانه، واشترك -رضيالله عنه- بعد ذلك في فتوح المسلمين، وكان يوم حنين ممسكًا بلجام بغلة النبي (،وكان ممن التفَّ حول الرسول ( يدافع عنه بعد أن فرَّ أغلب المسلمين، وأخذ العباسينادى مع رسول الله ( على المسلمين حتى ثبتوا، وأنزل الله عليهم سكينته، وكان النصرالعظيم في ذلك اليوم. [مسلم].
وعندما خرج الرسول ( ومعه أصحابه إلى أهل الطائف،عسكر بجيشه في مكان قريب منها، ثم بعث إليهم حنظلة بن الربيع -رضي الله عنه- ليكلمهم، فلما وصل إليهم خرجوا وحملوه ليدخلوه حصنهم ويقتلوه، فلما رأى الرسول ( ذلك، خاف على حنظلة، ونظر إلى أصحابه يحثهم على إنقاذه، وقال: (مَن لهؤلاء؟ وله مثلأجر غزاتنا هذه) [ابن عساكر]. فلم يقم أحد من الصحابة إلا العباس الذي أسرع ناحيةالحصن حتى أدرك حنظلة، وقد كادوا أن يدخلوه الحصن، فاحتضنه وخلصه من أيديهم فأمطروهبالحجارة من داخل الحصن، فجعل النبي ( يدعو له حتى وصل إليه ومعه حنظلة، وقد نجا منهلاك محقق.
وفي خلافة عمر -رضي الله عنه- أجدبت الأرض وأصابها الفقر الشديد،فخرج الناس إلى الصحراء ومعهم عمر والعباس، فرفع عمر بن الخطاب يديه إلى السماء،وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيِّنا فتسقينا، وإن نتوسل إليك بعم نبينافاسقنا. [البخاري].
فلما استسقى عمر بالعباس، قام العباس ورفع يديه إلى ربهوقال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بيإليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقناالغيث. ولم يكد العباس ينهي دعاءه حتى امتلأت السماء بالغيوم والسحاب، وأنزل اللهغيثه، فانطلق الناس يهنئون العباس، ويقولون له: هنيئًا لك ساقي الحرمين.
وكانللعباس مكانة كبيرة في قلوب المسلمين، وعظماء الصحابة، فيروى أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- كان جالسًا بجانب النبي ( فرأى العباس مقبلاً، فقام أبو بكر لهوأجلسه مكانه بجوار رسول الله (، فقال النبي ( لأبي بكر: (إنما يعرف الفضل لأهلالفضل أهلُ الفضل) [ابن عساكر].
وكان أبو بكر إذا قابل العباس نزل من على دابته،وسار معه احترامًا وإكرامًا له حتى يصل العباس إلى المكان الذي يريده، وكان علي بنأبي طالب يقبل يد العباس ويقول له: يا عم، ارض عني.
وقد كان للعباس ولدان، هماعبد الله بن عباس حَبرْ الأمة، وعبيد الله بن عباس. وتوفي العباس سنة (32هـ)، ودفنبالبقيع، وكان عمره (88) عامًا، وصلى عليه عثمان -رضي الله عنه-.


(39)حذيفة بن اليمان
صاحب سر رسول الله
حذيفة بن اليمان

إنه الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان -رضيالله عنه-، كان يكنَّى أبا عبد الله، دخل هو وأبوه اليمان في دين الإسلام، وحاَلفَأبوه بني عبد الأشهل من الأنصار، وعندما توجها إلى المدينة أخذهما كفار قريش،وقالوا لهما: إنكما تريدان محمدًا، فقالا: ما نريد إلا المدينة، فأخذ المشركونعليهما عهدًا أن ينصرفا إلى المدينة، ولا يقاتلا مع النبي (، فلما جاءت غزوة بدرأخبرا النبي ( بعهدهما مع المشركين، فقال لهما النبي (: (انصرفا نفي لهم بعهدهم،ونستعين الله عليهم) [مسلم].
وشارك حذيفة وأبوه في غزوة أحد، وأثناء القتال، نظرحذيفة إلى أبيه، فرأى المسلمون يريدون قتله ظنًّا منهم أنه من المشركين، فناداهمحذيفة يريد أن ينبههم قائلاً: أي عباد الله! أبي، فلم يفهموا قوله حتى قتلوه، فقالحذيفة: يغفر الله لكم، وأراد النبي ( أن يعطيه دية لأبيه، ولكن حذيفة تصدق بها علىالمسلمين.
وفي غزوة الأحزاب، حيث كان المشركون متجمعين حول المدينة، أراد الرسول ( أن يعرف أخبارهم، وطلب من الصحابة أن يقوم رجل
منهم ويتحسس أخبارهم، قائلاً: (من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع، أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي فيالجنة؟) فما قام رجل من القوم من شدة الخوف، وشدة الجوع وشدة البرد، قال حذيفة: فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله ( فلم يكن لي بد من القيام حيث دعاني، فقال: (ياحذيفة، اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون، ولا تُحْدِثَنَّ شيئًا
حتىتأتينا).
فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهمقدرًا ولا نارًا ولا بناء، فقام أبو سفيان، فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ منجليسه؟ قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: فلان بنفلان، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلكالكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، فارتحلوا إني مرتحل. وعاد حذيفة إلى النبي ( وأخبره بما حدث.
وذات يوم دخل حذيفة المسجد فوجد الرسول ( يصلي، فوقف خلفه يصلي معه، فقرأ النبي ( سورة الفاتحة ثم البقرة ثم النساء ثم آلعمران في ركعة واحدة، وإذا مَرَّ النبي ( بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرَّ بسؤالسأل، وإذا مر بتعوذ استعاذ...)_[مسلم].
وقد استأمنه الرسول ( على سرِّه، وأعلمهأسماء المنافقين، فكان يعرفهم واحدًا واحدًا، وكان عمر ينظر إليه إذا مات أحد منالمسلمين، فإذا وجده حاضرًا جنازته علم أن الميت ليس من المنافقين فيشهد الجنازة،وإن لم يجده شاهدًا الجنازة لم يشهدها هو الآخر. وقال علي -رضي الله عنه-: كان أعلمالناس بالمنافقين، خَيَّرَه رسول الله ( بين الهجرة والنصرة فاختار النصرة.
ودخلحذيفة المسجد ذات مرة فوجد رجلا يصلي ولا يحسن أداء الصلاة، ولا يتم ركوعها ولاسجودها، فقال له حذيفة: مُذْ كم هذه صلاتك؟ فقال الرجل: منذ أربعين سنة، فأخبرهحذيفة أنه ما صلى صلاة كاملة منذ أربعين سنة، ثم أخذ يعلِّمه كيف يصلي.
وكانحذيفة فارسًا شجاعًا، وحينما استشهد النعمان بن مقرن أمير جيش المسلمين في معركةنهاوند، تولى حذيفة القيادة، وأخذ الراية وتم للمسلمين النصر على أعدائهم، وشهدفتوح العراق وكان له فيها مواقف عظيمة.
وعرف حذيفة بالزهد، فقد أرسل إليه عمرمالاً ليقضي به حاجته، فقسم حذيفة هذا المال بين فقراء المسلمين وأقاربه، وأرسلهعمر أميرًا على المدائن، وكتب لأهلها أن يسمعوا لحذيفة، ويطيعوا أمره، ويعطوه مايسألهم، وخرج حذيفة متوجهًا إلى المدائن، وهو راكب حمارًا، وبيده قطعة من اللحم،فلما وصل إلى المدائن قال له أهلها: سلنا ما شئت. فقال حذيفة: أسألكم طعامًا آكله،وعلف حماري ما دمت فيكم. وظل حذيفة على هذا الأمر، لا يأخذ من المال قليلاً ولاكثيرًا إلا ما كان من طعامه وعلف حماره.
وأراد عمر أن يرى حال حذيفة وما أصبحفيه، فكتب إليه يطلب قدومه إلى المدينة، ثم اختبأ في الطريق حتى يرى ماذا جمع؟ فرآهعلى نفس الحال التي خرج بها، فخرج إليه فرحًا سعيدًا يقول له: أنت أخي وأنا أخوك. وكان عمر يقول: إني أتمنى أن يكون ملء بيتي رجالا مثل أبي عبيدة ومعاذ بن جبلوحذيفة بن اليمان أستعملهم في طاعة الله.
وكان حذيفة -رضي الله عنه- يحب العزلةويقول: لوددت أن لي مَنْ يصلح من مالي (يدير شئونه)، وأغلق بابي فلا يدخل عليَّأحد، ولا أخرج إليهم حتى ألحق بالله.
وذات مرة غضب الناس من أحد الأمراء، فأقبلرجل إلى حذيفة في المسجد فقال له: يا صاحب رسول الله ( ألا تأمر بالمعروف وتنهى عنالمنكر؟ فرفع حذيفة رأسه، وعرف ما يريد الرجل، ثم قال له: إن الأمر بالمعروف والنهيعن المنكر لحسن، وليس من السنة أن تشهر (ترفع) السلاح على أميرك. وقد سئل: أيالفتنة أشد؟ فقال: أن يعرض عليك الخير والشر، فلا تدري أيهما تركب. وقال لأصحابه: إياكم ومواقف الفتن، فقيل له، وما مواقف الفتن يا أبا عبد الله؟ قال: أبوابالأمراء، يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ويقول له ما ليس فيه. وتُوفي -رضيالله عنه- سنة (36هـ(


(40)أبي دجانة الأنصاري


صاحب العمامة الحمراء
أبو دجانة الأنصاري

إنه الصحابي الجليل أبو دجانةالأنصاري، واسمه سِمَاك بن أوس بن خرشة، أسلم وآمن بالله ورسوله (، وقد آخى الرسول ( بينه وبين عتبة بن غزوان، وكان شديد الحب لله ولرسوله (، كثير العبادة، اشترك فيغزوة بدر وحضر المعارك مع رسول الله (، وأبلى فيها بلاء حسنًا.
وقف يوم أحد إلىجانب فرسان المسلمين، يستمع إلى رسول الله ( وهو يعرض عليهم سيفه، قائلا: (من يأخذمني هذا؟) فبسطوا أيديهم، كل إنسان منهم يقول: أنا ..أنا، فقال رسول الله (: (فمنيأخذه بحقه؟)، فأحجم القوم، فقال أبو دجانة: أنا آخذه بحقه، فأخذه أبو دجانة، ففلقبه هام المشركين (أي شق رءوسهم) [مسلم].
وأخذ أبو دجانة عصابته الحمراء وتعصببها، فقال الأنصار من قومه: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، ثم نزل ساحة المعركة، وهوينشد:
أَنَا الذي عَاهَدَنِي خَلِيــلِي وَنَحْنُ بِالسَّفْحِ لَدَىالنَّخِيــلِ
أَنْ لا أُقِيمَ الدَّهرَ في الكبُولِ أَضــْرِبُ بِسَيْفِ اللَّهِوَالرَّسُولِ
وأخذ يقتل المشركين، ويفلق رءوسهم بسيف الرسول ( حتى بدأ النصريلوح للمسلمين، فلما ترك الرماة أماكنهم، وانشغلوا بجمع الغنائم، عاود المشركونهجومهم مرة أخرى، ففر كثير من المسلمين، وثبت بعضهم يقاتل حول رسول الله (، منهمأبو دجانة الذي كان يدفع السهام عن رسول الله ( بعدما رأى كتائب المشركين تريدالوصول إليه، فتصدى لهم بكل ما أوتى من قوة؛ أملا في الحصول على الشهادة.
وماتالرسول ( وهو راض عنه، فواصل جهاده مع خليفته
أبي بكر الصديق، وشارك في حروبالردة، وكان في مقدمة جيش المسلمين الذاهب إلى اليمامة لمحاربة مدعى النبوة مسيلمةالكذاب وقومه بني حنيفة، وقاتل قتال الأسد حتى انكشف المرتدون، وفروا إلى حديقةمسيلمة، واختفوا خلف أسوارها وحصونها المنيعة، فألقى المسلمون بأنفسهم داخل الحديقةوفي مقدمتهم أبو دجانة، ففتح الحصن، وحمى القتال، فكسرت قدمه، ولكنه لم يهتم، وواصلجهاده حتى امتلأ جسده بالجراح، فسقط شهيدًا على أرض المعركة، وانتصر المسلمون،وفرحوا بنصر الله، وشكروا لأبي دجانة صنيعه من تضحية وجهاد لإعلاء كلمة الله.

أخوكم هاني خليفة