الشريط


counter map
المظهر: نافذة الصورة. صور المظاهر بواسطة merrymoonmary. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

تنشيط اخر المواضيع

تنشيط اخر المواضيع
تنشيط اخر المواضيع

تنشيط اخر المواضيع

الخميس، 30 مايو 2013

لحظات تأمل ... صرخة هاني خليفة

الساعة تقترب من منتصف اللَّيل.

وما زال عاصمٌ يقظًا، وعيناه تأبيان الاستسلام للنَّوم.

وضعَ المخدَّة خلف ظهره، وأراحَه على الجدار، وأخذ يراقب الساعة وكأنَّه في شوق لدقَّاتها الاثنتي عشْرة، والغريب أنه كان من قبلُ يتمنَّى أن يكسر تلك الساعةَ الجدارية على أن يسمع تلك الدَّقات الطويلة المزعجة.

لقد قضى عاصمٌ شهرًا ونصفًا موقوفًا في مركز للشرطة، وخرج اليوم، وهو يريد أن تعود به عجلةُ الزَّمن إلى ما قبل ذلك التاريخ، ولتعود معها دورةُ الحياة بكلِّ تفاصيلها ما كان المهمَّ منها والتافهَ.

التلفاز مفتوح، ولكنه لا يأبهُ له.

أطفاله الثلاثة يغطُّون في نوم عميق.

أجسادهم الصغيرة الناعمة تتقلَّص شيئًا فشيئًا تحت اللِّحاف، حتى لكأنها جزءٌ من طيَّاته.

وهو بين الفَيْنة والأخرى يعود كي يغطِّي ما انكشفَ من أجسادهم؛ كي يحميَهم من برد الشتاء القارس.

فبيتُه المتواضع باردٌ دائمًا، بالرغم من أنَّ المِدفئة النِّفطية لا تخبت نارُها فيه.

زوجتُه المتعَبة استقبلتْه أحسنَ استقبال بعد طول غيابٍ، وتزيَّنتْ له، غيرَ أنَّ النعاس غلَبها؛ فهي لا تُطيق السَّهر معه، وهو أومأ لها برأسِه أنْ تنام، وهي استقبلت هذه الإشارة منه، وفهمتها كأنها كانت تتمنَّاها.

اللَّيل ينتصف.

والساعة بدأت تدقُّ دقاتها الاثنتي عشْرةَ، وصل معها إلى الدَّقة السابعة فانطفأت الكهرباء كالعادة، وأتمَّها معها وهو في طريقِه ليشعل الفانوس.

وليضع معه إبريقَ الشاي على المدفئة.

وعاد ليسرح مع نفسه، وليتذكر أين كان بالأمس في تلك الغرفة مع ستِّين شخصًا جمعه بهم الأقدار، بينهم البريءُ والمجرم والمشبوه ومن هو مثلُ حالِه، وبينهم الصغير والكبير والوضيع وذو الشأن.

عاد ليتذكر كيف كانت غرفة التوقيف، الهواء فيها عزيز شحيح، لونُ جدرانِها الكئيب كأنها جدران فرنٍ قديم، دخان السجائر الذي ملأ كلَّ أركانها حتى صارتْ منه تحت السقف سحابةٌ زرقاء باهتة، ورائحة ملابس وجلود بعض الموقوفين ممن لم يعانقها الماء منذ زمن، والزحمة الخانقة حتى إنه في بعض الأيام نام وقُرْبَ رأسِه أقدامُ رجُل عجوز، هي أشبه بحجارةٍ جافة منها إلى قدَم إنسان!

تذكَّر كيف قضى الشهر والنصف موقوفًا، والرعب يملؤه من أن يموت ذلك الطفلُ الذي دهسه غيرَ عامد بسيارته التي اشتراها قبل ستَّة أشهر، فتصبح حياته كلُّها في مهبِّ الريح.

فالطفل تلقَّى إصابة مباشِرة في الرأس، وفقَد الوعي، وظلَّ في غيبوبته شهرًا كاملاً كأنه جثة هامدة.

حتى إنه لم يفكر في سيارته التي صدمها بعد أن صدم الطفل بجدار أحد المنازل، وحطَّم مقدِّمتها بالكامل مع زجاجها الأمامي، وأحد أبوابها الجانبيَّة.

السيارة كان قد اشتراها بقرضٍ أخذه من أحد البنوك، ولطالما نُصح ألا يأخذَه، ولكنه لم يُنصت لأحدٍ.

أبوه حذَّره بأن البنوك تتعامل بالربا، وأخوه ذكَّره، ووعظه كذلك، ولكنَّه أبَى.

كان يُريد أن يقنع نفسَه بأن أباه الذي لم يُقرضه المبلغ أو حتى نصفَه هو السببُ في دفعه إلى هذي الطَّريق، ومن هنا كان ذلك دافعًا له ليُقدم على أخذ المال من البنك.

ولماذا يرفض وهناك من أصدقائه ممَّن هم على شاكلته قد أخذوه، وانقلبت أحوالهم لأحسنَ ممَّا كانوا عليه؟

أراد أن يُقنع نفسَه بأنه مضطرٌّ لذلك؛ وبالتالي فهو مباح له.

وهو دائم التَّرديد لكلامٍ سمعه من خطيبِ جمعةٍ عن الاضطرار، بالرَّغم من أنه نسِي حظًّا كبيرًا منه، ولم يَعُدْ يتذكرُ الآن إلا النَّزر اليسير منه، وربَّما هو لا يريد أن يتذكَّر غيره.

الظلام دامسٌ، والفانوس بالكاد يضيء ما حوله، ويبدو أن فتيلتَه تحتاج إلى تغييرٍ.

معِدتُه شبه خاوية؛ فهو لم يأكل كثيرًا على العشاء، بالرغم من أنَّ عشاءَه كان دسِمًا، وشاركه فيه جمعٌ من الأهل والأصحاب والجيران المحتفِين بخروجه من التوقيف.

كان يشعر برشَفات الشاي الحارَّة تلسع مرِّيئه في جوفه.

هو لا يدري الآن ماذا يفعل.

الطفل صحا من الغيبوبة، ولكنَّه ما زال في المستشفى.

ووالدُه بالكاد قبِلَ شفاعة من تشفَّعوا كي يتنازل عن الدعوة ويخرجه من حبسه من أهله بعدَ وعد من أهل عاصمٍ بتحمُّل كافَّة مصاريف علاجه، والاحتكام إلى جلسة عشائرية يتم فيها دفعُ تعويض مناسب لوالد الطفل، وكما تقضي التقاليد والأعراف.

سيَّارته مرمية ببابٍ أمام بيته شبه محطَّمة، وتحتاج إلى أكثرَ من ربعِ ثمنها كي يصلحها.

وخزينُه من المال لا يكفي حتى لشراء إطار، وجلسة الاحتكام العشائرية سيتحدد موعدُها عاجلاً أم آجلاً.

ولكنَّه بالرغم من كل هذا هادئ على غير عادته، حتى هو مستغرِب من سرِّ هدوئه.

أخذ يعود بذاكرتِه إلى ما قبل الحادث كيف أقنعَه أحدُ أصدقاء السُّوء وجرَّ قدمه إلى ذلك المصرِف، وسهَّل له إجراءات القرض، وزيَّن له الطريق، وتحذلقَ له بكلام جميل وقع منه موقعَه.

وكيف تجاهل نصائحَ الناصحين، وتحذير المحذِّرين.

ولكنَّه في موقفه لم يكن يتذكَّر إلا كلمات سمعها من أخيه الصغير الذي كان شابًّا في مقتبل عمره، غير أنه كان متدينًا جدًّا حين قال له: يا عاصم، إنَّ الربا قليلَه وكثيرَه حرامٌ، وإنك مشمولٌ باللعن بسببه، وإنَّ المالَ الحرام قد يُغني مَن تشرَّب هو بالحرام، أو من كانت نفسُه تهواه، ولعلَّ هذا المالَ سيرفعُه إلى ما تطمح له نفسُه المريضة، ولكنَّه قد يكون سببًا لاستجلاب العقوبة، واستمطار النِّقمة لمن يريد الله أنْ يُخزيَه، أو مَن يريد أن يذكِّره و يريد به خيرًا، وأدعو ربَّك أن تكون منهم، وإلا فأنت هالكٌ لا محالة.

يا عاصمُ، إنَّ أبي لم يحرمْك حقًّا، ولكنَّك طول هذه السنين لم تُقنعه أنك جديرٌ بالثِّقة والمسؤولية، وحريصٌ على المال الذي بين يديك، أتدري كم ضيَّعت منه على السفر واللَّهو والملبس والمأكل؟

كلماتٌ لم يستوعِبْها في البداية، مع أنه تحامَلَ على نفسه وسمعها من أخيه الصَّغير؛ لأنه كان ينظر إليه نظرةَ استصغار، ولأنه يحبُّه وهو أصغر مَن يلعب معه دَور الناصح الأمين، وربَّما كانت الأشهرُ الخمسةُ الأولى بعد شرائه لسيارة مشجعةً له كي يقتنع بما قام به، كأنه يقول لأخيه ولغيره: كفاكم، فما الذي حصل؟!

لكنَّه في غيهبِ حبسِه تأمَّلها جيدًا، ووجدها هي الحقَّ المبين، وهي تنطبق عليه انطباقًا.

صحيح أنَّه في البداية كان ما زال سادرًا في غيِّه، أو مأخوذًا بهولِ الصَّدمة التي أفقدتْه تركيزَهُ، فهو لم يدخل في حياتِه كلِّها حبسًا ولو لساعة.

وفي الحقيقةِ زاد يقينُه بها، وكانت هذه الكلمات الصَّادقةُ شيئًا فشيئًا، فكانت كأنَّها الصاعقة التي بدَّلت حياته، وقلبَت كِيانه، وأعادته إلى رُشده.

هي من كانت سببًا في إقباله على التعبُّد لله، والإلحاح في الدعاء وهو في محبسِه.

وهي من هوَّنتْ عليه المُصاب، وخفَّفتْ عليه ثِقل الخَسارة التي جعلتْه يعود إلى نقطة الصفر كما بدأ.

وهي ذاتُها من جعلته يعانق أخاه بعد خروجِه حتى كاد يخنقه.

وهي ذاتُها من جعلته يَقبلُ من أخيه نصيحةً أخرى بوجوب الاعتبار وتقبُّل البلاء، وشكر الله - تعالى - على إنعامِه عليه، وكيف أنَّه لم يشأْ أن يميت الطفل؛ كي لا تكونَ الخَسارة أشدَّ وأنكى.

الكهرباء عادت، واكتشف بعد أنِ اشتغل المصباح أنَّ الساعة تقترب من الثَّانية ليلاً، حتى إنه لم يشعُر بتلك الدَّقة اليتيمة التي تشير للساعة الواحدة من قبلُ.

أحسَّ بالتعب والبرد، ولكنَّه أبى أن يقطع لحظاتِ التأمُّل هذه التي قد لا تتكرَّر.

أراد أن يؤسِّس لفجرٍ جديد برغم المصاعب التي تنتظره.

أراد أن يستجيب لنداءِ فطرتِه الطيبة، وهو سليلُ عائلة طاهرة أصيلة، مشهودٍ لها بالخير والفضل والتديُّن.

لم يستسِغْ فكرة أن يكون الفرعَ الشاذَّ منها.

لم يشأْ أن تكون صحوتُه الدينية في السجن وإقبالُه على الله مجرَّدَ شعور مرتبط بحاجة أو ظرفٍ، ولكنَّه مع هذا ظلَّ حبيس تلك الهواجسِ التي تذكِّره بما مضى من عمره الذي قضى شَطره لاهيًا عن ربِّه، وهو يُقنع نفسه بأنَّ نقرات الديك تلك التي كان يؤدِّيها على السجادة فُرادى ومجتمعة - على الأغلب - كانت عبادةً.

وهو يعلمُ مع ذلك في قرارةِ نفسه أنَّها لم تغرس في قلبِه تعلُّقًا بالله، أو تدفعُه إلى خير، أو تنهاه عن شرٍّ.

ومن هنا كان نفورُ والدِه عنه.

هذا النُّفور الذي قابَلَه بمزيد من العنَت والعناد والغرور، والاستسلام لرغبات نفسِه الطَّامحة في كل شيءٍ.

صحيحٌ أنَّه لم يتجاوز الخطوط الحمراءَ كثيرًا، لكنَّه في المرة الأخيرة استساغ الباطل الذي زيَّنه له رفاقُ السوء، وزيَّنته له نفسُه العتيدة المكابِرة.

هو يخاف تلك النفس؛ لأنه يعرفُها جيِّدًا.

هو الآنَ يريد أن يبدأَ من جديد.

يريد أن ينطلق من ظلامِ حبسِه إلى عالَمٍ جديد مليءٍ بالنُّور والألق.

وبرغم خوفه، غير أن ثقته بالله أن يُعينه، ويلهمه الصواب، ويقرِّبه من أهله - هوَّنتْ عليه تلك المخاوف.

شعَر بالنُّعاس، وقام بصعوبةٍ إلى فراشه الذي افتقده، أدخل جسده تحت لحافه شيئًا فشيئًا، وتمدَّد بالقُرب من زوجته الغاطَّة مع أولادها في سُبات شتويٍّ عميق.

مدَّ يده من فوقها وأخذ صغيرَه الذي لم يُكمل عامَه الأول، ووضعَه بين يدِه، وأخذَ يتأمَّل في وجهه البريء، ويُطيل النَّظر في تفاصيلِه الدقيقة، وعلى محيَّاه ابتسامةٌ خفيفةٌ.

لفَّ أصابع طفلِه الناعمة بالكادِ حول إصبعه، وألصقَ جبينَه بجبينِه، ومرَّ به وهو في هذا الموقف منظرُ ذلك العجوزِ الذي كان يشاركُه محبسَه، وأقدامه كادت تلامسُ رأسَه.

لا يريد أن يستسلمَ للنوم قبل أن يضعَ بداية لتلك النِّهاية.

بدايةُ يوم جديد، ونهايةُ عهدٍ مضى إلى غير رجعة.

تناولَ جوَّاله وكتب إلى أخيه الصغير رسالةً يطلب منه الحضور إليه باكرًا في الغدِ.

كان يدور في خلَدِ عاصمٍ أن يطلب من أخيه أن يسألَ له عالِمَ دين عن كيفيَّة التصرُّف بسيارتِه المركونةِ بالبابِ.

فهو لا يدري أيُصلحها أم يبيعها؟ وهي التي اشتراها بمال الرِّبا، كما أنَّه عقدَ العزم على أن يذهبَ إلى أبيه ويستسمحَه ويستنصحَه في شأن هذه القضية، وما سيترتَّب عليها بعد أيَّام.

النُّعاس بدأ يسيطر عليه، وبالكاد تحامل على نفسه، وقام ليطفئَ الأضواء ويُحكِم غلق الأبواب.

وضع رأسَه على الوسادة، ولفَّ نفْسَه بلحافه، واستسلم لنومه، وهو يُتمتم بدعاءِ ما قبل النوم والذي علَّمه إياه أحد رفاق السجن.

كان يمنِّي نفسه ألاَّ تكون لحظاتُ التأمل هذي حُلمًا عابرًا يُفيق بعده على ذات الصَّباح، الذي طالما كان يمنِّي نفسَه بأن يفارقه.

الساعة دقَّت دقتين فقط؛ لتعلنَ وصولها للساعة الثَّانية بعد منتصف الليل.

عاصمٌ يغطُّ في نوم عميق وهادئ، بانتظار فجرٍ آخرَ، وصباحٍ جديد، خارجَ جدران ذلك السجن.
هاني خليفة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق