ظلَّت تُحملِق في علبة الدَّواء في يدها، فتحتها ووضعت الأقراص في كفِّها وفكَّرت في نفسها:
"إنها كميَّة كافية، عشر دقائق تكفي لبَدء التفاعل، ستزداد ضربات القلب
تدريجيًّا حتى يتعب فيتوقف، ثم يتوقف الدِّماغ بعده، سأتألَّم قليلاً ثم
ينتهي كلُّ شيءٍ".
نظرتْ "ماجدة" إلى ما يحيط بها لتتفقد المكان، الرسالة التي كتبتها وتحدَّثت فيها عن أسباب انتحارها موجودة على الطاولة، والنقود التي عليها لصديقتها إلى جانبها، السرير مرتَّب، وكلُّ شيءٍ في مكانه، أحسَّت بالدُّموع تملأ عينيها وتمنعها من الرؤية الواضحة، وتلك الحُرقة في الصدر تنهشها دون رحمةٍ، تراءت لها في ذاكرتها صور أشخاصٍ تعرفهم، وأحداث مرَّت عليها في سرعةٍ جنونيَّة، وتوقفت بها عند صورة "فارس" ابن أختها الصغير وهو ينظر إليها بعينيه البريئتين ويمدُّ إليها ذراعيه، وهو يقول لها: "نانة، احمليني؛ لنخرج إلى الحديقة"، وبذكراه ازداد الانقباض في صدرها، وازدادت الدموع، وخانتها بعض الشهقات المتقطعة، أقراص الدَّواء في يدها بلَّلتها الدموع، أحسَّت برأسها يتضخَّم والألم يعتصره عصرًا، أغمضت عينيها فتراءت لها صورة أبيها، وشعرت بصوتٍ يتحدَّث من داخلها، ويصرخ بألم ولا أحد يسمعه سواها: "أكرهه، وبقدر ما أحببته صرتُ أكرهه، سيظل موتي حِمْلاً على ضميره، إن بقي له ضمير، خائنٌ وكذَّاب، كلُّ هذه السنوات الماضية كنت أعتقده صادقًا ووفيًّا، ولكن طعنة في الظهر لم أتوقعها، وأمي المسكينة! كيف يا تُراها ستتحمل الألم؟! من كان يظن؟! زوجةٌ أخرى، وأولاد ٌصغار، أصغر منِّي! وكل تلك الأكاذيب التي كان يخترعها لتبرير غياباته المستمرة، كم أكرهه! و"سفيان" لماذا اختارها بدلاً منِّي؟! أهي نفس قصة أُمِّي؟! كلُّهم سواء، عالَمٌ لا يستحق أن يُعاش فيه، وهذه الأقراص ستحررني منه، لكن ماذا بعد ذلك؟ ماذا لو أنَّ قصة القبر والبعث، والجنة والنار حقيقة؟ لم أعد أقوى على التفكير، رأسي يؤلمني، أريد أن أرتاح، الامتحانات ستبدأ بعد أسبوع، لكن لماذا أفكر في الامتحانات؟ تفاهات! وهذه الأقراص بدأت تتحلَّل بسبب الدموع، ويداي ترتجفان، أشعر بالضَّعف، كم من الوقت يا تُرى سيستغرقون لكي يكتشفوا موتي؟ ماذا سيفعلون؟ وماذا سيقولون؟ وأمي و"فارس" كم أحبهما! ماذا لو أنَّ قصة القبر والبعث، والجنة والنار حقيقة؟ يا الله، لم أنطق باسمك منذ زمن، تذكرتك الآن، أريد القدوم إليك، سَئِمْتُ العيش بين البشر، لكنك لا تحب المنتحرين، بل وتدخلهم النار، هكذا سمعت، أشعر بوجودك الآن، ولقد تعبت وأريد أن أرتاح، حدَّثني يا الله، ماذا عليَّ أن أفعل؟ هذه الأقراص لن تحل كلَّ شيءٍ، ولست أقوى على التَّحمُّل، أين الحل؟
ضغطت بأصابعها عليها، رفعت يدها إلى فوق، ثم رمت بها بكلِّ قوةٍ، تأمَّلت الأقراص المتناثرة في كلِّ أرجاء الغُرْفة، جمعت إليها يديها، الدموع توقَّفت، فترة صمتٍ داخلي تمرُّ بها، لا أفكار، لا صور؛ سكون تام.
أدارت رأسها إلى ناحية المكتبة، تذكرت: "هناك المصحف، أكيد أنَّ الحل هناك؛ إنَّه كلام الله لكلِّ البشر، لا بد أن أجد فيه شيئًا موجهًا إليّ، لم لا؟".
قامت من كرسيها، توجَّهت إلى المكتبة الصغيرة في زاوية الغُرْفة، نظرت إلى الكتب الّتي تبدو من خلال زجاج البوابات الصغيرة، كتبٌ كثيرة تشمل العديد من المجالات، لكن لم تطلع على أغلبها، كانت تفضِّل كُتب القصص الغراميَّة، عاشت في عوالمها طيلة فترة مراهقتها، والآن تجد نفسها أمام واقعٍ آخر مختلف، تلمَّستْ غلاف المصحف، أحاطته بيديها، قرَّبته إلى صدرها ثم عادت إلى مكانها، جلست ووضعت المصحف على الطاولة، فتحته دون تحديد موضع معيَّن وبدأت تقرأ: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ﴾ [النساء: 29 - 31].
عادت الدموع إلى الانحدار بشدَّة، قطرات تسقط على صفحات المصحف، وتُسرع لمسحها، الرؤية الواضحة صارت صعبة، لكنها شعرت بومضة أمل تنتشر في عُمْقها جعلت قلبها ينبض، حدَّثت نفسها: "الكلام موجَّه إليَّ، لا شك في ذلك، ربي يعلم بوضعي، رائع! إنَّ الله يحدِّثني، وأنا الشيء المهمَل من الجميع، يبدو أنّي لست سيِّئةً إلى هذه الدَّرجة، يا فرح قلبي المتعب! ﴿ مُدْخَلًا كَرِيمًا ﴾، يهمني الأمر، حسنًا! كما تريد يا ربِّي! بما أنَّك قررت فلن أتمنَّى الموت، ولن أسعى إليه، حين يصل دوري فكما تشاء، وفي انتظار ذلك سأعيش كما تريد".... صرخة هاني خليفة
نظرتْ "ماجدة" إلى ما يحيط بها لتتفقد المكان، الرسالة التي كتبتها وتحدَّثت فيها عن أسباب انتحارها موجودة على الطاولة، والنقود التي عليها لصديقتها إلى جانبها، السرير مرتَّب، وكلُّ شيءٍ في مكانه، أحسَّت بالدُّموع تملأ عينيها وتمنعها من الرؤية الواضحة، وتلك الحُرقة في الصدر تنهشها دون رحمةٍ، تراءت لها في ذاكرتها صور أشخاصٍ تعرفهم، وأحداث مرَّت عليها في سرعةٍ جنونيَّة، وتوقفت بها عند صورة "فارس" ابن أختها الصغير وهو ينظر إليها بعينيه البريئتين ويمدُّ إليها ذراعيه، وهو يقول لها: "نانة، احمليني؛ لنخرج إلى الحديقة"، وبذكراه ازداد الانقباض في صدرها، وازدادت الدموع، وخانتها بعض الشهقات المتقطعة، أقراص الدَّواء في يدها بلَّلتها الدموع، أحسَّت برأسها يتضخَّم والألم يعتصره عصرًا، أغمضت عينيها فتراءت لها صورة أبيها، وشعرت بصوتٍ يتحدَّث من داخلها، ويصرخ بألم ولا أحد يسمعه سواها: "أكرهه، وبقدر ما أحببته صرتُ أكرهه، سيظل موتي حِمْلاً على ضميره، إن بقي له ضمير، خائنٌ وكذَّاب، كلُّ هذه السنوات الماضية كنت أعتقده صادقًا ووفيًّا، ولكن طعنة في الظهر لم أتوقعها، وأمي المسكينة! كيف يا تُراها ستتحمل الألم؟! من كان يظن؟! زوجةٌ أخرى، وأولاد ٌصغار، أصغر منِّي! وكل تلك الأكاذيب التي كان يخترعها لتبرير غياباته المستمرة، كم أكرهه! و"سفيان" لماذا اختارها بدلاً منِّي؟! أهي نفس قصة أُمِّي؟! كلُّهم سواء، عالَمٌ لا يستحق أن يُعاش فيه، وهذه الأقراص ستحررني منه، لكن ماذا بعد ذلك؟ ماذا لو أنَّ قصة القبر والبعث، والجنة والنار حقيقة؟ لم أعد أقوى على التفكير، رأسي يؤلمني، أريد أن أرتاح، الامتحانات ستبدأ بعد أسبوع، لكن لماذا أفكر في الامتحانات؟ تفاهات! وهذه الأقراص بدأت تتحلَّل بسبب الدموع، ويداي ترتجفان، أشعر بالضَّعف، كم من الوقت يا تُرى سيستغرقون لكي يكتشفوا موتي؟ ماذا سيفعلون؟ وماذا سيقولون؟ وأمي و"فارس" كم أحبهما! ماذا لو أنَّ قصة القبر والبعث، والجنة والنار حقيقة؟ يا الله، لم أنطق باسمك منذ زمن، تذكرتك الآن، أريد القدوم إليك، سَئِمْتُ العيش بين البشر، لكنك لا تحب المنتحرين، بل وتدخلهم النار، هكذا سمعت، أشعر بوجودك الآن، ولقد تعبت وأريد أن أرتاح، حدَّثني يا الله، ماذا عليَّ أن أفعل؟ هذه الأقراص لن تحل كلَّ شيءٍ، ولست أقوى على التَّحمُّل، أين الحل؟
ضغطت بأصابعها عليها، رفعت يدها إلى فوق، ثم رمت بها بكلِّ قوةٍ، تأمَّلت الأقراص المتناثرة في كلِّ أرجاء الغُرْفة، جمعت إليها يديها، الدموع توقَّفت، فترة صمتٍ داخلي تمرُّ بها، لا أفكار، لا صور؛ سكون تام.
أدارت رأسها إلى ناحية المكتبة، تذكرت: "هناك المصحف، أكيد أنَّ الحل هناك؛ إنَّه كلام الله لكلِّ البشر، لا بد أن أجد فيه شيئًا موجهًا إليّ، لم لا؟".
قامت من كرسيها، توجَّهت إلى المكتبة الصغيرة في زاوية الغُرْفة، نظرت إلى الكتب الّتي تبدو من خلال زجاج البوابات الصغيرة، كتبٌ كثيرة تشمل العديد من المجالات، لكن لم تطلع على أغلبها، كانت تفضِّل كُتب القصص الغراميَّة، عاشت في عوالمها طيلة فترة مراهقتها، والآن تجد نفسها أمام واقعٍ آخر مختلف، تلمَّستْ غلاف المصحف، أحاطته بيديها، قرَّبته إلى صدرها ثم عادت إلى مكانها، جلست ووضعت المصحف على الطاولة، فتحته دون تحديد موضع معيَّن وبدأت تقرأ: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ﴾ [النساء: 29 - 31].
عادت الدموع إلى الانحدار بشدَّة، قطرات تسقط على صفحات المصحف، وتُسرع لمسحها، الرؤية الواضحة صارت صعبة، لكنها شعرت بومضة أمل تنتشر في عُمْقها جعلت قلبها ينبض، حدَّثت نفسها: "الكلام موجَّه إليَّ، لا شك في ذلك، ربي يعلم بوضعي، رائع! إنَّ الله يحدِّثني، وأنا الشيء المهمَل من الجميع، يبدو أنّي لست سيِّئةً إلى هذه الدَّرجة، يا فرح قلبي المتعب! ﴿ مُدْخَلًا كَرِيمًا ﴾، يهمني الأمر، حسنًا! كما تريد يا ربِّي! بما أنَّك قررت فلن أتمنَّى الموت، ولن أسعى إليه، حين يصل دوري فكما تشاء، وفي انتظار ذلك سأعيش كما تريد".... صرخة هاني خليفة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق